June2010Banner


سوق عكاظ
تجديد الشعر والفكر
موسم ثقافي ينتظره المثقفون من أرجاء الوطن العربي جميعها، وملتقى يقصده رواد الفكر من أدباء وشعراء، وفنانين.. لإحياء دور كانت السوق تقوم به منذ أكثر من خمسة عشر قرنًا، والحفاظ على قيم ومعطيات، تعزز هويتنا، وتثري الحركة الأدبية والثقافية في واقعنا الحاضر.

جدة: محمد الساعد

عكاظ! أشهر أسواق العرب في التاريخ، وأهمها على الإطلاق من حيث تأثيرها الأدبي, والفكري, والحضاري في حياة العرب, وصقل ذائقتهم الشعرية. وهي اليوم من المعالم السياحية الرئيسة في محافظة الطائف. كما أصبحت تظاهرة ثقافية، تجاوز صداها حدود الوطن، إلى مختلف بلدان العالم العربي.
كانت الطائف ثالث مدن الحضر قبل الإسلام، بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة. برزت مكانتها منذ القدم لعوامل كثيرة، أهمها جمال طبيعتها، ومناخها المعتدل، وموقعها المتميز بين مدن المملكة، لذا، كان أهل مكة منذ القدم يقضون الصيف في الطائف.. قال الشاعر:
تشتو بمكة نعمةٌ
ومصيفها بالطائف
وهي تعُد اليوم ما يربو على مليون نسمة.
وحافظت الطائف على مكانتها هذه بعد الإسلام، لكونها، علاوة على ما سبق، نافذة تطل على قوافل الحجيج القادمين إلى مكة المكرمة. وعلى بعد أربعين كيلومترًا شمال الطائف، وعن يمين المسافر المتجه إلى الرياض، أحد أهم المواقع الأثرية والتاريخية والحضارية في حياة العرب قديمًا وحديثًا.. إنه سوق عكاظ، أشهر ملتقيات العرب على الإطلاق!
اشتهرت سوق عكاظ عند العرب بأنها أهم أسواقهم. كانت القبائل تجتمع فيها شهرًا كل سنة، يتناشدون الشعر ويتفاخرون فيما بينهم.
بين تسمية «عكاظ» وما يدور فيها من نشاطات، صلة قوية، فقد اشتق اسمها من المعاكظة وهي المحاجة في المفاخرة التي كانت إحدى نشاطات تلك السوق. يقول الخليل بن أحمد في شرح كلمة عُكاظ: «سُمي به لأن العرب كانت تجتمع فيها كل سنة فيعكظ بعضهم بعضًا بالمفاخرة والتناشد: أي يدعك ويعرك، وفلان يعكظ خصمه بالخصومة: يمعكه». ويقول ابن دريد: «عكظت الرجل أعكظه عكظًا إذا رددت عليه وقهرته بحجتك، وعكاظ بهذا سُمي، وهو موضع لمواسم العرب كانوا يتعاكظون فيه بالفخر». ويقول الزمخشري: «وعكاظ متسوق للعرب كانوا يجتمعون فيه فيتناشدون ويتفاخرون.. ومنه قالوا تعكظوا في مكان كذا، إذا اجتمعوا وازدحموا».
منتدى عكاظ
كانت عكاظ بالإضافة إلى كونها سوقًا تجارية واسعةً تقصدها قوافل التجار القادمين من الشام وفارس وبلاد الروم واليمن، للظفر بأجود السلع والمنتجات على اختلاف أنواعها، منتدى للشعر والأدب والفكر. وكانت مقصد الشعراء المُجيدين الذين يتطلعون إلى الشهرة، يعرضون فيها آخر ما نظموه من أبيات، فيتلقفها محبو الشعر ويتناقلها الرواة، وتسير بذكرها وذكرهم الركبان.. وقد ظلت تلك القصائد التي تبارى الشعراء بها، حتى بعد اندثار السوق، حاضرة في الأذهان، ومنها «المعلقات»، وهي القصائد الأكثر شهرة في تاريخ الشعر العربي، لفصاحتها. وهي قصائد منتقاة أشاد بها النقاد، واختلف الرواة حول عددها، إذ اتفق ابن عبدربه الأندلسي، وابن خلدون، وابن الرشيق القيرواني، والزوزني، وغيرهم.. على أنها سبع، هي قصائد امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وعمرو بن كلثوم التغلبي، والحارث بن حلزة، وزهير بن أبي سُلمى، ولبيد بن ربيعة، وعنترة بن شداد العبسي. في حين رأى ابن النحاس أنها تسع، وأضاف إليها التبريزي ثلاثًا، لتصبح عشرًا.

مركز ثقافي شامل
لم تكن سوق عكاظ مكانًا يُنشد فيه الشعر فحسب، بل كان للحكماء والبلغاء حضورهم فيها أيضًا. وكانت، إلى جانب هذا النشاط الأدبي والفكري الحثيث، موسمًا اجتماعيًا قبليًا، له دوره السياسي والاجتماعي المؤثر. فقد أضحت مركزًا إعلاميًا يجتمع عنده شيوخ قبائل العرب وعشائرهم يتبادلون آخر الأنباء، ومنبرًا خطابيًا تُلقى فيه الخطب البليغة المحملة حكمًا وأمثالاً، فينصت إليها العامة ويتمثلون بها، ومجلسًا تُعقد فيه مواثيق وتُنقض أخرى، كما كانت مضمارًا لسباق الفروسية والمبارزة، ومنتدى تطلق فيه الألقاب بجدارة على الشعراء والفرسان والقبائل وغير ذلك.
وقد زاد من تميز هذه السوق أنها الوحيدة التي كانت قبلة لقبائل العرب جميعها، لا تكاد واحدة تتخلف عن موعدها، في حين كانت الأسواق الأخرى تقتصر على قبيلة بعينها. وقد نشطت السوق في الفترة السابقة لظهور الإسلام، وظلت قائمة في عهد النبوة وصدر الإسلام، أيام الراشدين وزمن بني أمية، حتى سنة 129 للهجرة، حين ثار الخوارج ونهبوها.
تأثرت سوق عكاظ بتوسع الدولة الإسلامية وانتقال مراكز الحضارة من الحجاز إلى دمشق ثم بغداد، حيث ازدهرت المدن الكبيرة، وبدأت الحياة الجديدة في الشام والعراق ومصر تجتذب الناس إليها، مع الاهتمام بالفتوحات على نحو أضعف الحاجة إلى سوق عُكاظ وقلص دورها التجاري على الخصوص.
وعادت عكاظ
هاهي عكاظ تنفض اليوم الغبار عن مسالكها وأزقتها، وتأخذ زينتها، لتفتح أبوابها من جديد في وجه من أضناهم الحنين إلى الماضي، من عشاق الكلمة، وهواة الفن، وغيرهم من الباحثين عن التسلية والتغيير، لتعود إلى سالف مجدها وسابق عهدها، بوجهها المشرق، وتاريخها التليد، موسمًا ثقافيًا ينتظره المثقفون من أرجاء الوطن العربي، بلهفة وشوق، وملتقى يقصده رواد الفكر من أدباء وشعراء، وفنانين.. لإحياء دور كانت السوق تقوم به منذ أكثر من خمسة عشر قرنًا، والحفاظ على قيم ومعطيات، تعزز هويتنا، وتثري الحركة الأدبية والثقافية في واقعنا الحاضر.
يعود الفضل في الاهتمام بسوق عكاظ، إلى عهد الملك فيصل، طيب الله ثراه، حيث أنشئت في عهده لجان من المؤرخين والأدباء وعلماء الجغرافيا، لتحديد موقع السوق. وبعد دراسة متأنية لكل ما ورد فيه ذكر عكاظ وموقعها من مصادر أجمعت على أنها «نخل في وادٍ بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة المكرمة ثلاث ليال»، والرجوع إلى الوثائق التاريخية والأشعار القديمة، والتعرف إلى الأودية والجبال، تم تحديد موقع السوق على بعد عشرة كيلو مترات من مطار الحوية شرقًا، عند ملتقى واديي شرب والأخيضر، وعلى بعد نحو 40 كم من مدينة الطائف.
عاد الاهتمام بسوق عكاظ بعد انقطاع دام نحو ألف وثلاث مئة سنة، إيمانًا بالقيمة الثقافية الرائدة التي تتسم بها سوق عُكاظ، وما يمكن أن تفعله السوق للحركة الثقافية والأدبية في هذا الوطن. وكانت الانطلاقة الجديدة للسوق في عام 1428هـ، من خلال مهرجان كبير احتضنه مركز أقامته الرئاسة العامة لرعاية الشباب بالقرب من موقع السوق العتيقة، وتضمن عروضًا حية للفنون الشعبية، ونشاطات ثقافية متنوعة.
وقد تم تشكيل لجنة عليا للإشراف على تطوير فعاليات السوق، تضم كلاً من إمارة منطقة مكة المكرمة، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة الثقافة والإعلام، والهيئة العامة للسياحة والآثار.

عكاظ على أنقاض عكاظ
تقوم السوق اليوم في المكان نفسه الذي قامت فيه سوق عكاظ التاريخية، ويقصدها الكثير من السياح لمشاهدة السوق الضاربة بعمق في جذور الماضي، والتي أضافت إلى عبق التاريخ، بريق الحاضر، ما يجعل الزائر يقف فيها على مفارقة اجتماع التقنية الحديثة التي سُخرت للمهرجان، مع موقعها العريق بين الأودية والجبال، وقيمته التاريخية الأصيلة، التي تقف الآثار الباقية شاهدًا عليها، وأكدت وجودها الوثائق المدروسة بعناية وكفاءة علمية عالية، مع بداية مشروع إعادة اكتشاف موقع السوق. وقد قامت الهيئة العامة للسياحة والآثار بتصميم مشروع متكامل لسوق عكاظ سيصبح بعد تنفيذه من أهم المراكز الثقافية والسياحية في الشرق الأوسط. كما تم توقيع عقد خيمة عكاظ لتكون مقرًا لجميع فعاليات السوق للسنوات القادمة. وقد دشن الأمير خالد الفيصل الموقع الإلكتروني لسوق عكاظ ، وهو الآن متاح لمن يريد الاطلاع، على الرابط:
www.sooqokaz.com شاركت دارة الملك عبدالعزيز في مهرجان سوق عكاظ الأول بجناح متكامل يضم صورًا فوتوغرافية، ووثائق ومخطوطات تقدم لمحات مهمة من تاريخ سوق عكاظ والطائف.
ونُظمت في العام الماضي في اليوم الأخير من البرنامج الثقافي للمهرجان، ندوة عن التاريخ الشفهي تناولت أهمية رصد التاريخ الشفهي المحلي وتوثيقه وكتابته، بصفته جزءًا مهمًا من تاريخ المملكة العربية السعودية ومكملاً للمدون منه، وضرورة تفعيل المصدر الشفهي.
وقد وصف الأمير خالد الفيصل مشروع السوق بأنه «مشروع القرن»، وأنه «مشروع ثقافي يعكس بعمقه التاريخي، الذي يتصل فيه الماضي بالحاضر والمستقبل، الوجه الحضاري للمملكة».
عكاظ في حلة جديدة
مهرجان سوق عكاظ الذي تبدأ فعاليات دورته الجديدة لهذا العام يوم الثلاثاء 19/10/1431هـ، وتستمر لمدة أسبوعين، يستمد وهجه من تاريخه العريق، ليحيي ذكرى أولى أسواق العرب، وينصب خيامه حيث نصب الأوائل سوقهم، ويحتفي بشعرهم، ويقدم لمحبي الشعر والأصالة مهرجانًا يشبع حنينهم إلى الماضي، ويجدد اللقاء مع الفلكلور الشعبي، والحرف اليدوية.. يصاحب ذلك كله العديد من الندوات الأدبية والثقافية والمسرحيات الشعرية، سيقدمها عدد من كبار المثقفين العرب، والشعراء المخضرمين من ضيوف المهرجان، بالإضافة إلى مسابقات في مجالات الأدب والفن المختلفة، والحرف.. رُصدت لها جوائز قيمة.

متعة.. واستفادة
وقد خصصت اللجان المنظمة جوائز رفيعة للفائزين في مختلف المسابقات، في الشعر، والفنون التشكيلية، والخط العربي، والتصوير الضوئي، والفلكلور الشعبي. وتجاوزت قيمة الجوائز التي تم توزيعها مليون ريال. وتأتي جائزة شاعـر عكاظ في مقدمة جوائز السوق، وتعنى بالشعر العربي الفصيح، لتكرم الشاعر العربي المتميز وتمنحه لقب «شاعر عكاظ». ولا يفوز بها أكثر من شاعر، يلقي عند فوزه بالجائزة، وقيمتها 300 ألف ريال، قصيدة حفل الافتتاح.
كما تعيد السوق إلى الأذهان أمجاد العرب وتراثهم الأصيل، وتستعرض ما حفظه ديوان العرب من عيون الشعر ومعلقاته، وتقدم في كل مهرجان احتفالاً واحتفاءً بأحد شعراء المعلقات لتؤكد اتصال الحاضر بالتراث، وتجدد العلاقة بينهما، وتحفز على المحافظة على هذا الماضي العريق، وما حفل به تاريخه من أحداث وأمجاد.
وقد تقرر أن يكون المحتفى به في دورة هذا العام «1431هـ»، طرفة بن العبد. وسيحتفي به المهرجان من خلال ندوات ومحاضرات تسلط الضوء على سيرته ومعلقته، بالإضافة إلى مسرحية شعرية تُعرض في حفل الافتتاح، وأيام السوق.
وقد خصصت، تشجيعًا للشباب، جائـزة «شاعـر شباب عكاظ»، وقيمتها مئة ألف ريال، وهي متاحة لمن هم في سن الثلاثين، أو أقل. كما رصدت، تأكيدًا للعلاقة بين الشعر والفن، جائـزة «لوحة وقصيـدة»، وقيمتها مئة ألف ريال. ونظرًا لأهمية الخط العربي، فقد تم تخصيص جائـزة قيمتها مئة ألف ريال له، إذ تحدد في كل عام نصوص يقوم الخطاطون بكتابتها، لإبراز جماليات الخط العربي، وترسيخه كفن قائم بذاته. ولم تغفل اللجنة القائمة على المهرجان باب التصوير الضوئي، لما للصورة من أهمية في الحياة المعاصرة، فرصدت لهذا الفن أيضًا، جائزة قيمتها مئة ألف ريال، وموضوعها هذا العام جماليات العمارة الإسلامية.
وقد استحدثت هذا العام، أيضًا، جائزة عكاظ في مجال «الابتكار في الحرف والصناعات اليدوية في المملكة العربية السعودية»، للتعريف بالحرفيين، ولفت الأنظار إلى الدور المهم الذي يقومون به لتشجيع حركة الإبداع، وتنمية مهارات جديدة في مجال الحرف والصناعات اليدوية، من أجل استمرار العطاء، والمحافظة على حرف تكاد تنقرض. وتشمل الجائزة ست حرف وصناعات يدوية هي: السدو والنسيج، التطريز والأزياء التراثية، المنتجات الخشبية ومنتجات الخوص، الحلي والمنتجات الفضية، منتجات حرفية أخرى لها طابع ابتكاري.
تبلغ قيمة الجائزة 132 ألف ريال، موزعة على الفئات الست، خصصت لكل فئة منها ثلاثة مراكز. يمنح الفائز بالمركز الأول عشرة آلاف ريال، والثاني سبعة آلاف، بينما يحصل الثالث على خمسة آلاف ريال.
كما خصصت سوق عكاظ جائـــزة للفلكلـــور الشعبـــي قيمتها 100 ألف ريال، إلا أنها تقتصر على محافظات منطقة مكة المكرمة.. تتنافس لنيلها الفرق الشعبية المقدمة للعروض.
وتدين عكاظ اليوم بمكانتها، إلى كونها ملتقى شعريًا وفنيًا وتاريخيًا فريدًا من نوعه، يعيد باتصاله بعُكاظ التاريخ، التي لعبت فيما مضى هذا الدور لدى قبائل العرب جميعها، تأصيل القيم الخلقية والتاريخية والثقافية لدى العرب، ويقدم للزائر مهرجانًا ثريًا في محتواه، أصيلاً في مرماه، يقصده المثقفون والمهتمون بشؤون الأدب والثقافة، لينصتوا إلى الكلمة الشاعرية العذبة، ويستمتعوا بالعروض الشعبية الأصيلة، ويكتشفوا من خلال مختلف فعالياته القيمة المعرفية والثقافية التي تزخر بها السوق.