اختصاصي عكننة!
بقلم: د.أحمد عبدالمنعم عربود
هل جرّبت يومًا أن تكون اختصاصي عكننة؟! أو حدث أن عكرت على الناس، بغير قصد، صفوهم؟
أنا شخصيًا أستاذ ورئيس قسم العكننة! فقد اكتشفت واقتنعت أخيرًا أنني أستحق هذا اللقب عن جدارة واقتدار!
فزوجتي، أدام الله فضلها، طباخة ماهرة لم تقصر يومًا في إسعادنا بكل ما لذ وطاب، ولكن تسري في جوانحي أحيانًا نوازع الشر المستترة في النفوس فيدفعني ذلك أن أتسلل إلى عالمها الخاص، لأتدخل في شوؤنها المنزلية و«المطبخية» بطريقة مستفزة.
وكم كانت أمي، رحمها الله، تعاني من أبي ما تعانيه مني الآن زوجتي، وتدخل معه في شجار وعراك لا ينتهي. وأنا ما زلت صغيرًا كنت أتعاطف معها وأنحو باللائمة على أبي الذي يتدخل فيما لا يعنيه، ولكن للأسف ما في الآباء يرثه الأبناء فقد ورثت عنه ما كنت أكرهه. عندما أنجح في إقناع زوجتي بأن أتولى مهمة إعداد طعام الغداء لأمر ألَمَّ بها، أو أمنيها بشيء تعرفه! توافق على مضض بعد أن أقدم لها كل التعهدات والموافقات على شروط دخول المطبخ. أنطلق سعيدًا مبتهجًا بقدرتي على الإقناع ونشوة الحصول على جواز دخول الميدان، أقصد المطبخ، الذي يبدو في البداية نظيفًا ومرتبًا.. وبمزاج عال ودندنة مصحوبة بأداء حركي كتلك التي تسري في أوصال «ناصر القصبي» في «طاش ما طاش»… أبدأ في إعداد الطعام، ومع كل خطوة نغمة جديدة.. وحركة جديدة وعند تذوق الحساء أجد نفسي مدفوعًا أن أؤدي حركة اهتزازية ثعبانية من رأسي مثل الهنود علامة الرضا، رافعًا إلى الأعلى طرف الإبهام علامة النجاح والاستحسان.
الوقت يمضي..
مع انطلاق الروائح وأصوات الطشطشة والفرقعة وألوان المشمر والمحمر أحس أنني ما كان ينبغي لي أن أكون طبيبًا بل «شيفًا» كهؤلاء الذين يطلون علينا دومًا من عالم الفضائيات.
أحس أن هناك أعداء وجواسيس يتربصون بي من كل جانب، وأكاد أسمع حركات وهمهمات وضحكات مكتومة بالخارج، ووقع أقدام صغيرة متلصصة لاستكشاف ما يتم بالداخل، والجري بين الحين والآخر لإبلاغ القيادة،أولًا بأول، بما يدور خلف الجدران. لكن، لا يهم، ليكن ما يكن، فلن أستدرج للدخول في مهاترات أو صدامات جانبية والعبرة بالنهاية.. وسيعلم الجميع عند تناول الطعام أي منقلب سينقلبون!!
يمضي الوقت..
بعد قليل أجد نفسي محاطًا بأكداس من المخلفات.. لست أدري كيف تجمعت حولي في دقائق معدودة وقد كان المطبخ منذ قليل نظيفًا ومرتبًا؟! صحيح أنني أجيد بعثرة الأشياء بطريقة همجية منقطعة النظير، ولكن ليس لدرجة أن يتحول المطبخ في دقائق إلى مكبٍّ للنفايات، يحتاج إلى إجراءات استثنائية للتخلص منه.
تطل عليَّ زوجتي فجأة بعد أن تجمَّع لديها تقارير الجواسيس الصغار، ثم تصاب بالصدمة ومن ثم الغثيان.تشهق.. يرتسم على وجهها الغضب. ورغمًا عنها تتحلى بالصمت والصبر، تنشد الانتهاء من إعداد الوجبة المرتقبة. وأجد نفسي مدفوعًا لتكرار ما كنت أفعله من قبل وكان طعامًا سيئًا للغاية، وأراني مدفوعًا لا أدري لماذا؟ أن أضيف كميات كبيرة من البهارات والشطة، حتى إذا انتهيت من إعداد الطعام يكون الأولاد في الانتظار. بلهفة يتحلقون حول المائدة بعد أن يكون الجوع قد بلغ منهم مبلغه. وللحق رائحة الطعام لا تقاوم، ولكن ليس من اشتم كمن عاين!!
يمد أحدهم يده الصغيرة إلى الطبق، يلقي ما حملته من طعام في جوفه، يتوقف لحظة، تتسع عيناه، يحمر وجهه، ينطلق صارخًا مولولاً... من أثر البهارات والشطة, ينتقل الصراخ إلى الذي يليه، ثم تسري العدوى بينهم. لتنقلب فرحة الترقب وبهجة تناول الطعام إلى وجبة تعذيب على أنغام سيمفونية حزينة وصاخبة من البكاء والصراخ لا ينجو منها إلا من يخلص بنفسه وينطلق موليًا الأدبار ليخمد نيران اللهب المتأجج في فمه وفي جوفه بشرب الماء الذي لا يزده إلا عذابًا واشتعالاً.
الحزن يسود ونظرات الغضب تطال مني كسهام تنوشني. الأيدي الصغيرة تسد الرمق بكسرات من الخبز وبعض الجبن، أو ما تيسر من طعام!!
وتبدأ المساجلات والمهاترات والمناطحات بيني وبين زوجتي التي تنظر إليَّ بغيظ وهي ترمق أطفالها المساكين وهم يتضورون جوعًا وألمًا محاولين وقف لهيب الألم المستعر في أجوافهم وأفواههم دون جدوى. وبين سيمفونية الصراخ وزعيق زوجتي أظل أعاند وأكابر وأتناول الطعام مدعيًا ومتظاهرًا بخلوه من البهارات والشطة، وكم هو لذيذ وشهي، بدليل أنني أتناوله بشهية مفرطة وإن كنت، في أعماقي، أعاني مثلهم تمامًا. تنتفض زوجتي تاركة المائدة متبرمة، ساخطة موجهة حديثها لي بغضب:
أ سعيد أنت الآن؟ إذًا، تناوله وحدك «تقصد الطعام أو اللهيب الذي صنعته».
وأحدث نفسي، وأنا في أعماقي حزين، وأكتم ضحكة أخفيها متسائلاً: لماذا تتكرر هذه المأساة وبالسيناريو نفسه مرة ومرات دون تغيير! وبدون أن آخذ من تلك التجارب السالفة عبرة أو عظة؟!! ولكن يبدو أنه ميراث، وما في الآباء يرثه الأبناء، وما أراني ورثت من أبي إلا أسوأ ما فيه!!
وينفعل «شادي» ولدي الصغير محتدًا وهو يحرك يده الصغيرة مروحًا بها أمام فمه من لهيب الشطة، وبكلمات لا تنقصها الشجاعة وإن تآكلت حروفها اللغوية والصوتية ينطلق موجهًا حديثه لي منفعلاً ومصحوبًا بقذائف متناثرة من فمه:
تعرف يا بابا.. أنت مش اختصاصي جراحة.. أنت اختصاصي عكننة.
وأضحك وتنفرج أساريري وجوارحي وتتبعني زوجتي رغمًا عنها من كلمات شادي التلقائية والمعبرة وقد انقشعت وتبددت سحابة الكآبة، وتسري عدوى الضحك في الجميع وتستحيل سيمفونية الألم والأحزان إلى موجة من الضحك الطفولي البريء أتلقاه بارتياح وسعادة وتراني منسجمًا ومقتنعًا وأنا أردد:
حقًا إنني لست اختصاصي جراحة ولكن الحق والأجدر أنني اختصاصي عكننة بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف!!
عكننة: كلمة عامية مصرية المقصود منها إثارة الضيق.