في فلسفة الحب والجمال
فنان يحفظ من
ابن حزم إلى الرافعي
عاشق جدة يحاكي طبيعتها القديمة، ويجسد معمارها الذي شيد في زمن جميل، بين الذاتية والموضوعية تنوعت مصنفات الحب وكتاباته فيما يعد تاريخًا اجتماعيًا للحب، أو قراءات فيما أسس لنوع من فلسفة الحب والجمال.
تعددت الكتابات العربية عبر تاريخها الطويل حول الحب، بعضها تأسيسي، وبعضها هوامش على كتاب الحب، ليس لسطحيتها وإنما لأنها مجرد إطلالة على الحب تستمد بصرها من كتابات سابقة سعت إلى الاشتباك معه ومحاولة الإحاطة بمفهومها عن الحب بوصفه كائنًا له قدراته التي تمنح الكتاب شهرة واتساعًا لمساحة القراء: «وإنه ما من مؤلف قديم أو حديث تطلع إلى التأليف في الحب إلا وهو يطمح إلى اكتساب أعظم قدر من القراء، إذ يعرف ما للحب من منزلة في النفوس وتأثير في الشعور»(1)، وهو ما اجتمع في المؤلفات العربية حول الحب وفي مقدمتها «طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي» الفيلسوف، الفقيه، العاشق، وهي صفات لست في حاجة إلى معرفتها قبل أن تقرأ كتابه وإنما تعرفها منه. ذلك الكتاب الذي صنع شهرته وفتح الطريق للقادمين من بعده للكتابة عن الحب دون حرج. وهي قيمة ما زال الكتَّاب يعتمدونها حتى اليوم، إذ تجد الكثيرين يتخذون من المؤلف مرجعية للتأليف، وذريعة في وجه من يلومهم، وحجة على انفتاح عقلية الرجل ومساحات التنوير فيها.
ولأن الحب هو الحب لا يتغير مفهومه وإن تغيرت طرائق التعبير عنه وفق ثقافة مجتمع ما أو قدرات تعبيرية لكاتب ما، فإن الكتَّاب جميعهم يتشاركون في تشكيل إطار فكري يمثل صورة كبرى للحب في الفكر الإنساني، ربما تتنازع هذه الصورة فنون أخرى، أو تتداخل معها فنون أخرى كالغناء أو الشعر مثلاً في قدرتهما على الوصول للمتلقي بصورة أسهل من وصول الخطاب الفلسفي مثلاً. ولكن يظل الإطار الفكري أكثر قدرة على تأسيس الملامح الأهم في الثقافة الإنسانية التي قد تتباين طرائق طرحها للحب ولكنها تتفق في كونه عاطفة إنسانية تسمو على غيرها من مشاعر الإنسان وعواطفه وهو ما تكشف عنه دراسة الأدب المقارن لقصص الحب بين الآداب المختلفة، وهي قصص تعد وجوهًا متنوعة لعاطفة واحدة تتسرب إلى النفوس فتملكها وتغير كيمياءها (2).
لقد تآزرت الثقافات الإنسانية في تشكيل تيار ضخم لدراسة الحب يصعب أحيانًا أن نعلي من شأن ثقافة على الأخرى، أو أن نسجل سبقًا لأمة دون غيرها في تشكيل الروافد ذات التأثير في هذا السياق. فأحيانًا يكون لقصة ذات طبيعة شعبية أثرها البارز في غيرها من الآداب حتى إنها تصبح نصًا له خطابه الخاص العابر للحضارات الإنسانية «كما نجد في مجنون ليلى في الثقافة العربية، وروميو وجولييت في الثقافة الغربية على سبيل المثال».
يمكن النظر إلى طوق الحمامة بوصفه مؤلفًا حضاريًا يندرج فيما ألفته العقلية العربية من مؤلفات أدركت البشرية حاجتها فراحت تؤسس عليها، وتستمد منها الطاقة للتأليف في مجالات متنوعة، مؤلفات من شأنها أن تنظم المعرفة الإنسانية واضعة الأسس المعرفية للبشرية، تتضمن جوانب تعليمية، وتربوية دون خروجها عن قيمتها الفكرية العميقة، وكلها سمات تضمن لها البقاء.
ومن بين المؤلفات التي عنيت بأمر الحب تقف ثلاثة كتب لا يفوت الناظر إليها علاقات قائمة بينها وأشكال من الارتباط يجعلها على بعد المساحة الزمنية بينها تكمل بعضها بعضًا:
• طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي.
• مصارع العشاق لابن السراج.
• السحاب الأحمر لمصطفى صادق الرافعي «ويتشارك مع الكتاب كتاب آخر للمؤلف نفسه: حديث القمر».
كثير من هذه المؤلفات وضع بدافع شخصي بغية التعلم، ما يضع حدودًا من الخبرة المتوافرة للمؤلف والتي تكون بمنزلة الثروة الذاتية المعرفية التي تكتمل بمصادر معرفية من القراءة وخبرات الحياة المتنوعة. والدافع الشخصي قد يسبقه دافع خارجي يطرح هذا المنحى التعليمي ويؤكده، يتمثل في تكليف بالكتابة، والحض عليها، ومن ثم تكون فضيلة الامتثال مفجرة لطاقات المؤلف الكامنة وتجربته العميقة.
ابن حزم يكتب بتكلي
ف من عبيد الله بن عبدالرحمن ابن المغيرة بن أمير المؤمنين الناصر منطلقًا من قاعدة ترتكز على الحب الذي لا كتابة دونه:
أودك وُدًّا ليس فيه غضاضةٌ
وبَعضُ مودّات الرجال سرابُ
ولا يكتفي ابن حزم بإعلان الحب وإنما يفصح عن التكليف، لا لمجرد الإشارة إليه أو تبرئة نفسه من كونه فقيهًا يكتب عن الحب ومن ثم يبرئ ساحته بالتكليف وبكونه يكتب طاعة لأميره، وإنما جاء الإعلان عن التكليف تكريمًا وتبجيلاً لأميره، وكان الحب المعلن أساسًا في الدافع: «وكلفتني أعزك الله أن أصنف لك رسالة في الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة، لا متزايدًا ولا مفننًا، لكن موردًا لما يحضرني على وجهه وبحسب وقوعه، حيث انتهى حفظي وسعة باعي فيما أذكره، فبدرت إلى مرغوبك، ولولا الإيجاب لك ما تكلفته».
وإذا كان ابن حزم يؤكد فكرة النقل والرواية عن غيره «حفظي» فيما يعد شائكًا من الحكايات والمشاهد والتفاصيل فإنه يؤكد تفاعله بما شاهده، وتعبيره الصادق عن هذا التفاعل عبر نصوصه الشعرية التي أوردها بوصفها نصوصًا خالصة للكتاب، أو للحالة المعبر عنها: «وسأورد في رسالتي هذه أشعارًا قلتها فيما شاهدته»(3).
في العام الذي وضع فيه ابن حزم طوق الحمامة «417هـ» ولد فيه ابن السراج(4) مؤلف مصارع العشاق، كان ابن حزم في الرابعة والثلاثين عندما وضع رسالته، ما يعني أن هناك مساحة زمنية ممتدة فاصلة بين الكتابين.
يتضمن «مصارع العشاق» مساحات مختلفة من التنوع الموضوعي. فعلى الرغم من أن المؤلف يحصر عمله على العشق بوصفه غريزة ودافعًا للفعل، وكاشفًا عن حالات لطوائف من البشر لا تتوقف عند شاعر أو فيلسوف أو متصوف أو ملك أو أمير أو غني أو فقير، فإنه يوسع من دائرة الاستقصاء ليتجاوز البشر إلى الحيوانات والشجر. ولئن كان ابن حزم قد أسس للحب فلسفته ووقف منه موقف الطبيب في قدرته على رصد مكامن الداء واستشراف مساحات لم يتوقعها أحد من قبله، فإن ابن السراج ينطلق من قاعدة الاستقصاء نفسها، ولكنه يكمل طريقًا بدأه سابقه بسرد حكايات ليست واقعة في محيط حركته فقط. فإذا كانت الأندلس مجالاً لحركة ابن حزم فإن المساحة التي تحرك فيها ابن السراج كانت أوسع بكثير «ولد في بغداد، وفيها توفي، ولكنه سافر إلى مكة، ودمشق، ومصر». وقد أثرت في مؤلفاته التي بدأت تنحو جهة المجتمع والظاهرات النفسية والطبائع المختلفة، من ثم كان كتاب «مصارع العشاق»، وهو الأهم، وكتاب «حكم الصبيان» وكتاب «مناقب السودان»، كما نظم بعض كتب الفقه واللغة والتواريخ، وله شعر مليح، وكانت له معرفة بالحديث والأدب، وكان متدينًا، حسن الطريقة مع ظرفه ولطف أخلاقه»(5).
لقد عمد السراج إلى عملية تسريد(6) الحالة التي فصل ابن حزم القول فيها، حول الجانب التنظيري للعشق عند ابن حزم إلى جانب تطبيقي، إن صح القول، بحيث تحولت مقولات ابن حزم إلى نماذج متعينة وأدلة دامغة على ما أراد أن يضمنه خطابه ذا الطابع الفلسفي. فإذا كان صاحب «طوق الحمامة» قد ارتفع بالعشق الذي هو فعل لا يجد تفسيره عند بعضهم، أو عند من أصابتهم سهامه، إلى الخطاب الفلسفي، فإن صاحب مصارع العشاق قد وجد له مكانًا في الواقع عبر حكايات لها قوة الواقع وسرودًا لها دلالة الحقيقة.
تقوم المادة في مصارع العشاق على سبع
مئة وسبع حكايات تجمع بين عدد كبير من الأشخاص، وكم هائل من الأحداث المتفردة بحبكتها وقدرة ناسجها على إنتاجها وفق موهبة في الإيجاز والتشويق، وتعتمد في معظمها على الجانب التوثيقي بذكر الرواة، وباعتمادها أخبارًا عن شخصيات لها وجودها التاريخي المتحقق منه مثل ليلى الأخيلية والحجاج، وأبي نواس والغلام، وليلى العامرية ومجنونها، وعزة وكثير، وزليخا ويوسف. وثمة شخصيات ليس لها وجود تاريخي يمكن التحقق منه مثل:
صريعا الحب، ومجنون وعليلة.
وكتابات الرافعي تمثل التجسد الذاتي لفكر ابن حزم ممررًا بسرود ابن السراج. الرافعي استوعب فلسفة ابن حزم، وأدرك تجربة شخوص ابن السراج فجاءت انطلاقته الذاتية معبرًا عن حالة واحد ممن عاشوا التجربة وكان عليهم أن يطلقوا لها العنان لتخلد نفسها عبر الكتابة. الذات عند ابن حزم تراوح بين الحضور والغياب، تختفي وراء الفلسفة والمرويات والقصص وتتجلى في النصوص الشعرية، ولكنها تغيب عند ابن السراج متخفية وراء حكايات لم يعشها، وليس بإمكانه أن يعيشها حجمًا، ولا أن يحتمل تناقضاتها الإنسانية كيفًا، ولكنها عند الرافعي تكشف عن حضورها بقوة حيث الكتابة تجربة ذاتية لصيقة الصلة بواقع الكاتب التاريخي، ما تنبه معه دارسو الرافعي إلى هذا الجانب في تجربته، جانب الحب ورؤيته له وهو ما يجعل سعيد العريان يضع تجربة الرافعي المتفردة في نوع مغاير لما عهده الآخرون من البشر:
«إن الحب عند الناس هو حيلة الحياة لإيجاد النوع، ولكنه عند الرافعي هو حيلة النفس إلى السمو والإشراق والوصول إلى الشاطئ المجهول، هو نافذة تطل منها البشرية إلى غاياتها العليا، وأهدافها البعيدة، وآمالها في الإنسانية السامية، هو مفتاح الروح إلى عالم غير منظور تتنور فيه الأفق المنير في جانب من النفس الإنسانية».(7)
يتحلل ابن حزم في بعض المواضع من الذاتية ولكن الرافعي ينغمس فيها، فلا يفصح ابن حزم عن مرجعية تجربته وإن وقف متخفيًا وراء بعض التجارب التي تعتقد في لحظة ما أنه بطلها وأن المسرود عنه هو ابن حزم نفسه، والسراج يكتفي بدور السارد المؤمن بطبيعة التجربة التي خاضها غيره. ولكن الرافعي يقيم سحابه الأحمر «على سبب واحد حول فلسفة البغض وطيش الحب ولؤم المرأة، على أن كل ما فيه لا يشير إلا لمعنى واحد: هو أن قلبًا وقع في أسر الحب يحاول الفكاك فلا يستطيعه، فما يملك إلا أن يصيح بملء فمه: إنني أبغضك أيتها.. أيتها المحبوبة»(8).
في «طوق الحمامة» لا يورد ابن حزم نصوصًا لشعراء آخرين، فمادة كتابه تقوم على ثلاثين بابًا تجمع كلها بين الشعر والنثر باستثاء الباب التاسع «باب الإشارة بالعين» الذي يخلو من الشعر. وفي «مصارع العشاق» يورد ابن السراج قرابة الألف بيت من الشعر تقوم على علاقة احتضانية بين الشعر والنثر، وتعتمد على تضفير الشعر بالنثر، حيث الشعر يحل محل الحوار بين الشخصيات، ويكتفي النثر بدور الاستهلال الذي يمكن الاستغناء عنه دون اختلال المعنى.
لك أن ترى في هذه المؤلفات رؤية تأسيسية للحب، ولك أن تراها أفكارًا سابقة ممتدة الفاعلية. فلم يكن إنجازها لعصرها فحسب وإنما كان إنجازها لعصر لاحق ستنفرد فيه بالهيمنة على العقلية العربية، عقلية المتلقي الذي لن يجد بديلاً عصريًا لفهم الحب بوصفه عاطفة إنسانية أسمى، ما يدفعه للعودة إلى ابن حزم والسراج والرافعي ومن حذا حذوهم. ولكنها عودة تحمل في داخلها بعض مبررات الانصراف عنها ممثلة في طبيعة هذه النصوص من الأقدم إلى الأحدث، أعني الطبيعة اللغوية والأسلوبية لهذه النصوص. فإذا كان ابن حزم أكثر حزمًا في بناء نصه دون الإحالة إلى عدد من الرواة فإن ابن السراج قد أورد من الرواة ما يجعل المتلقي العصري في حاجة إلى التخلص منه وصولاً إلى البنية الأساسية.