آمال حسن
تختزن الذاكرة العربية حكايات عن مدن كبيرة ضمت حضارة زاهرة وأبنية شاهقة ابتلعتها الرمال وعفت آثارها فلا تدرك مواضعها إلا بالتصور والظن. وقد وردت في القرآن الكريم قصص عن أمم بائدة أشارت إلى ما كانوا فيه من غنى ورفاهية من العرب، وهكذا نجد أن من المؤرخين من يقسم العرب إلى قسمين عرب باقية وعرب بائدة نسب لها القصاصون ما شاؤوا من الروايات والأساطير.
عدا عن الأساطير قدم الرحالة والجغرافيون معلومات لمشاهداتهم في هذه الممالك ومن أهمها مملكة الجرهاء في شرق الجزيرة على شاطئ الخليج العربي, كما ذكر اسمها في كتبهم باللغة اليونانية منها ما سجله الجغرافي الروماني استرابون «63ق.م-23م» نقلاً عن المؤرخ اليوناني ارتيمدورس «276 -190ق.م». عن الجرهاء بأنها «مدينة تقع على ساحل الخليج العربي على بعد ما يقارب 60 ميلاً إلى الغرب من جزيرة دلمون «البحرين». ويسكنها أقوام من الكلدانيين العرب والمنفيون من بابل. وبأرض هذه المدينه أملاح «سباخ»، كما كان الناس يعيشون في منازل صنعت من أعمدة وجدران ملحية ويعمدون إلى رشها بالماء لتظل هذه متماسكة وأطلق عليها مدينة الجدران البيضاء. وقال إنهم أغنى العرب يقتنون الرياش الفاخرة ويتمتعون بكل أسباب الرخاء والترف بما في ذلك آنية الذهب والفضة والفرش الثمينة ويجملون جدران منازلهم بالذهب والعاج والجمان والأحجار الكريمة. وذكر المؤرخ بليني 79-22 م، أن مساحة مدينة الجرهاء بلغت ما يقارب الخمسة أميال وأن أبراجها مشيدة من الملح.
ظل موقع الجرهاء (Gerrha) واسمها العربي سؤالاً محيرًا حاول كثير من الباحثين على مدى القرن الماضي التكهن بالإجابة عنه دون أن يصلوا إلى حقيقة مؤكدة حتى بدأت الرمال تكشف عن أسرارها، وتوالت الكشوفات لتقودهم إلى الاقتراب من كشف لغز هذه المدينة.
مقبرة الذهب
في عام 1419هـ قادت المصادفة الآثاريين ليجدوا أنفسهم إلى ما صنف وقتها بأنه أهم اكتشاف أثري في المنطقة الشرقية، وكان ذلك في موضع «حوالي 80 كلم» من مدينة الجبيل، حين ظهرت مقبرة بكامل محتوياتها كانت مخبأة تحت ركام من رماد الفخار، وما أن أزيلت الطبقة السطحية حتى ظهرت «الأميرة» بحليها الذهبية كانت الفتاة التي قدر عمرها ما بين 9 أعوام إلى 11عامًا ترتدي قناعًا ذهبيًا على الوجه، وعقودًا ذهبية وأساور وخواتم وأزواج أقراط، وكفًا، ومجموعة كبيرة من الرقائق الذهبية، وشرائط ذهبية رقيقة وأزارًا ذهبية، كما نثرت حولها مجموعة من قطع الذهب. ومع اكتشاف هذا المدفن الذهبي بدأت تتعزز فكرة الربط بين موقع ثاج ومملكة الجرهاء التي اشتهرت بالغنى حتى قيل إن بيوت أهلها كانت ترصع بالجواهر.
ميناء مم
لكة الجرهاء «300 ق.م»
ورغم أن هذا المدفن يرجع إلى عام 50 قبل الميلاد في الفترة الهلينستية أي في فترة حديثة نسبيًا إلا أن مقابر أخرى اكتشفت في المنطقة التاريخية ذاتها عمقت البعد التاريخي للمنطقة، إذ حددت بـ«1700 قبل الميلاد». ويرى مختصون أثريون أن منطقة ثاج الواقعة على بعد 80 كيلو مترًا غربي مدينة الجبيل غيرت وجهة النظر المتعلقة بتاريخ المنطقة والتي برزت بعد اكتشاف أميرة ثاج.
استمر البحث في ثاج والمناطق المحيطة بها حتى عثر على دليل آخر يربط بين ثاج والجرهاء. وكان الكشف الجديد الذي أعلن عنه في الرابع من شهر مايو الماضي في موقع الدفي داخل كلية الجبيل الصناعية يمثل موقع ميناء ثاج في مملكة الجرهاء التي سادت في شرق الجزيرة العربية قبل الإسلام حسب ما أوضحه نائب رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار د.علي بن إبراهيم الغبان. وقال إنه من الممكن إعطاء القرن الثالث قبل الميلاد كتاريخ أولي، وسوف تتضح الصورة بشكل دقيق عقب استكمال نتائج الطبقة.
وذكر الغبان أن أعمال التنقيب التي تمت بوساطة خبراء سعوديين متخصصين في آثار المنطقة أسفرت عن الكشف عن مبان سكنية مترابطة تتميز بأسلوب معماري فريد وتقنية عالية في تشذيب حجارة البناء واستخدام المونة شديدة الصلابة من الجير. كما كشف عن طريق واسع وسط هذه المباني يمتد شرق/غرب وتتوسط غالبية المباني أحواض دائرية الشكل بقطر 1.5م مبنية بالحجارة المشذبة بأرضية ترابية ربما تكون أعدت لتخزين الأقوات أو غير ذلك. ويحيط بالموقع سور مبني بالحجارة الكبيرة جرى الكشف عن جزء منه في الناحية الشمالية للموقع فيما عثر على العديد من اللقى الأثرية خلال أعمال التنقيبات كالأواني الفخارية، والمباخر، والدمى الطينية، وعظام الأسماك، والكائنات البحرية التي تم جمعها لدراستها. وحدد الباحثون من خلال دراسة طبقات الموقع ثلاث مراحل استيطانية واضحة المعالم، ولذا يمكن أن يكون الاستيطان بموقع الدفي يعود للمراحل المبكرة من مملكة الجرهاء.
وكانت وكالة الآثار قد قامت عام 1408 بإجراء حفرية استطلاعية لمعرفة العمق التاريخي للموقع واتضح وقتها أن الموقع يمثل مرفأً أو ميناء لمدينة «ثاج» الجرهائية، التي تبعد 90 كم غرب الجبيل.
أهمية تاريخية
يرى الباحثون أن ثاج واحدة من أهم مراكز العمران في الأزمنة السابقة على ظهور الإسلام لعدة أسباب، ربما من أهمها غنى البيئة المحيطة بها بالمياه الموسمية والجوفية، ووفرة المراعي لقطعان الماشية. وتتمركز ثاج في قلب صحراء عبورها أمر لا بد منه لمن يريد شرقي الجزيرة العربية من وسطها أو من يريد وسطها من شرقيها. فمن المسلم به أن تجارة الخليج العربي سواء مع الهضبة الإيرانية أو شبة القارة الهندية أو غيرها كانت تفرغ في مواني الخليج العربي كالدفي، ثم تنقل برًا في اتجاهات متعددة منها ثاج. كما يتضح من حجم المدينة المحصنة ومدافنها وفخارياتها ونقوشها الحسائية وعملاتها البرونزية أنها كانت من أهم المدن البرية في محيط المناطق المجاورة.
أهم المعالم الأثرية:
يورد الباحث نزار عبدالجبار وصفًا لأهم معالم موقع ثاج ومنها: السور الأثري المحيط بالمدينة ويمكن مشاهدته من على السطح. بني هذا السور من الحجارة المهذبة. ويمكن ملاحظة امتداد السور الأثري بوضوح فهو يتجه نحو الشمال الغربي ليشكل شكلاً مستطيلاً تقريبًا أو متوازي أضلاع غير منتظم. وفي داخل السور توجد تلال أثرية يمكن رؤية سطوح جدران وحداتها السكنية بوضوح من على السطح، بالإضافة إلى إمكانية ملاحظة ممرات يتراوح عرضها ما بين 5م إلى 6م تقريبًا، وهي عبارة عن شوارع للمدينة داخل السور.
وهناك تلال سكنية في الجهة الجنوبية والشرقية، وأيضًا في الجهة الجنوبية الغربية خارج نطاق السور الأثري. ويمكن رؤية أساسات البناء من على السطح بشكل واضح وهذه التلال السكنية تمثل منازل كبيرة مما يوحي بأنها قصور أو ما شابه ذلك، أو أنها وحدات معمارية تخدم شعائر تعبدية أو مناسبات اجتماعية أو القوافل القادمة أو غير ذلك، وأن كل وحدة مستقلة عن الأخرى. وتبلغ المساحة الإجمالية لهذه التلال مجتمعة 100,000متر مربع تقريبًا.
وتوجد في الجهة الجنوبية، والجنوبية الشرقية من ثاج على بعد 1كم عن السور تقريبًا وهي تلال ركامية ذات قمم مستديرة ومقعرة. وتنتشر هذه التلال على مساحة كبيرة ويلاحظ أساسات البناء على بعض هذه التلال وتم التنقيب فيه لموسم واحد، فأظهرت النتائج أنها مقابر جماعية وربما تكون «عائلية».
وتعد ثاج واحدة من أكبر المراكز المنتجة والمستخدمة للدمى الفخارية، حيث وجدت فيها أعداد كبيرة جدًا ومتنوعة من الدمى الفخارية، ولا يوجد موقع في المملكة العربية السعودية حوى دمى فخارية بأعداد كبيرة مثل ما وجد في ثاج. وفي دراسته للأشكال الفخارية في ثاج يقول الباحث سيد أنيس هاشم: انقسمت هذه الدمى إلى مجموعتين رئيستين هما دمى الحيوانات والدمى البشرية. وقد صورت الدمى البشرية في أشكال الإناث والذكور على حد سواء، ويبلغ العدد الكلي للدمى البشرية الذكرية التي تم اكتشافها ست رؤوس دمى، وخمس دمى نصفية «من الرأس للصدر» وقد تم تصنيفها من حيث الشكل إلى مجموعتين فرعيتين هما مجموعة دمى لأشخاص ضعفاء، ومجموعة أخرى لأشخاص أقوياء.
وهناك مجموعة أخرى من الدمى الفخارية اكتشفت في ثاج وهي عبارة عن مجموعة من الحيوانات والطيور تشمل الجمل والثور والأسد والحصان وأفعى الكوبرا والدلفين والنسر والبومة. والجمل واحد من أكبر الحيوانات شيوعًا بين الدمى الفخارية التي عثر عليها. فقد صور هذا الحيوان في أشكال وأساليب مختلفة ومزخرفة. وفي بعض الأحيان كان المالك يعلمه بعلامات تعرف بالوشم سواء على رقبة الجمل أو فخذه. ويخلص د.أنيس هاشم إلى أن جميع المراحل الزمنية المكتشفة في ثاج كانت تضم مجموعات خاصة ذات خلفيات اجتماعية حضارية ولغوية مشتركة وبالرغم من ذلك، فقد كانت هناك بعض التأثيرات الخارجية من حين لآخر على فترات زمنية مختلفة مع احتمالية استمرارية هذا الوضع حتى اندثارهم في نهاية القرن الثالث الميلادي.
.