تكمن أهمية هذا الكتاب لكونه أول عمل علمي مختص بالجزيرة العربية في بداية القرن العشرين الميلادي. وتقول د.صبا عبدالوهاب الفارس, من مركز البحث العلمي الوطني الفرنسي، معهد الدراسات الشرق أوسطية، جامعة ليون لوميير الثانية بفرنسا والتي ترجمت الكتاب إلى العربية: إن دقة عمل العالمين أنطونان جوسن ورفائيل سافينياك تتضح في مسحهما الشامل والدقيق للآثار التي صادفتهما في طريقهما من القدس إلى مدائن صالح.
الكاميرا للتوثيق
استغرقت رحلة العالمين جوسن وسافينياك ثلاثة أشهر من مارس إلى مايو 1907.. وكانا أول مستكشفين يسعيان لاستخدام الكاميرا الفوتوغرافية التقليدية في توثيق الآثار وما صادفهما في طريقهما خلال الرحلة.. وناتج عملهما ساعد، ولأول مرة، على إطلاع المختصين على آثار المنطقة بشكل واقعي.. وكانت الأجهزة الفوتوغرافية ثقيلة الحمل في تلك الفترة وصورها بالأبيض والأسود.. لكن ما ساعدهما على نقلها هو سهولة سفرهما باستعمالهما القطار، وهذا كان غير متوافر لدى الذين سبقوهما من المستكشفين. وكانت دقة الملاحظات والتحاليل قيمة، ما جعل هذا الكتاب مرجعًا للمختصين في دراسة النقوش والآثار والجغرافيا وعلم الاجتماع.
والكتاب يحمل بين دفتيه تفاصيل الرحلة من الشام عبر فلسطين والأردن إلى تبوك، ثم مدائن صالح الممتلئة بالآثار والنقوش. وتميز بالوصف الدقيق لما شاهده المؤلفان في مدائن صالح وقراءة لما وجداه فيها من نقوش وشرح لمواقع كجبل أثلب، وقصر الفهد، وثلة قصر البنت، وجميع المقابر والأشكال المنحوتة، والغرف والدواوين.
وخصص المؤلفان قسمًا من كتابهما للنقوش التي قاما بتسجيلها من مدائن صالح ومنها النبطية، والمعينية، واللحيانية، وقاما بتحليلها وترجمتها إلى معان معروفة.
من القدس إلى معان
غادر المؤلفان القدس بعد ظهر يوم الأحد 17 مارس 1907 إلى عكا مع قافلة كانت تضم فلاحي جبل القدس الذين يرتدون ثيابًا بدوية وهم في طريقهم إلى ما وراء نهر الأردن لحراثة أراضي البدو الرحل هناك. ويستعرض الكاتبان المتاعب التي تعرضا لهل قبيل الوصول إلى مادبا بقولهما: في اليوم التالي استيقظنا مبكرين جدًا لأنه كان علينا الوصول إلى مادبا قبل غروب الشمس. ولم نكد نتحرك حتى فوجئنا بغيمة آتية من الغرب تهبط على سهل الغور.. وبعد عدة دقائق ابتلت الطرق وتحولت الأرض إلى «أرض صابونية» وذلك حسب تعبير رفاقنا للطريق.. وبعد عدة ساعات وصلنا إلى ضفاف نهر الأردن.. ويعلن عادة عن الاقتراب منه بصرخات عالية صادرة عن الجسر المصنوع من بعض العوارض الكبيرة المهتزة التي تربط فيما بينها ألواح ودعامات خشبية وأغصان غليظة مثبتة على الجوانب، والأعلى يشبه قفصًا طويلاً مغلقًا بإحكام، وهناك حارس معه المفاتيح ولا يفتح إلا بعد استلام رسم المرور.
وتكون الرحلة شاقة وطويلة عبر الدواب التي أوصلتهم إلى مادبا المبنية على تلة منخفضة الارتفاع بجانب سهل خصب، وتحوي آثارًا تعود للفترة النبطية أو الاحتلال الروماني. وتدلل تلك الآثار على أن مادبا كانت مزدهرة ولها بريق خاص من القرن الرابع إلى القرن السادس الميلادي.
معان وجوارها
استقل المؤلفان قطار البخار من دمشق إلى معان التي وصلا إليها بعد 24 ساعة. ومعان من أهم المحطات على خط سكة حديد الحجاز.. وأقيمت فيها مستودعات للمعدات والفحم وورش لتصليح الآلات.
لقد غيرت أبنية المحطة الحديثة الجوار المحيط لمعان التي تضم منطقتين منفصلتين. والقرية كان اسمها في الماضي المغارة، وحملت أسماء معان الشامية، أو معان دمشق، والأخرى تسمى بالعكس معان المصرية أو معان الحجازية.
وقال المؤلفان إن الحكومة أخبرتهما بأنها تنزع إلى التسمية الأخيرة، لأن العادة الجارية حاليًا «في ذلك الوقت» هي الحجاز.
تبوك قرية الـ«40» منزلاً
تبوك قرية صغيرة مغمورة وسط المزارع الخضراء، وهي تكاد تضم 40 منزلاً!! هكذا وصفها المستكشفان اللذان وصلا إليها في مايو 1907. ويضيفان :جدران منازلها مبنية من الطوب المجفف بالشمس وسقوفها من الأغصان التي يغطيها الطين. وفي الشمال الشرقي يوجد مسجد حديث البناء مبني من حجارة منحوتة بشكل جميل ويعود الفضل في بنائه إلى كرم باشا الحج عبدالرحمن باشا الذي عهدت إليه إدارة موكب الحج. وهو المسؤول عن توزيع الهدايا التقليدية على طول الطريق، والتي تقدم إلى شيوخ القبائل في البلاد التي يعبرها الموكب. وفي الطرف الآخر من القرية توجد قلعة تبوك التي هي من أهم القلاع الواقعة على درب الحج وأقدمها.
من تبوك إلى مصطبغة
ويستطرد الكاتبان في وصف رحلتهما: تمكنا من الحصول على أربع تذاكر سفر إلى رأس الحديد، وتحرك القطار عبر سهل رتيب. ولم تكن السكة الحديدية قد أنجزت تمامًا في العديد من الأماكن، ولكن قضبانها كانت موضوعة مباشرة على الأرض. ويعبر القطار وادي الأثل على ارتفاع 835 مترًا والذي يبعد 27كم من تبوك. وبحسب قولهما «هو وادي يهبط من جبل شعيبان وجبل وطر وينتهي في القاع حاملاً معه أحيانًا كميات كبيرة من المياه. وقد كنس أحد الفيضانات الأخيرة إنشاءات الجسر الذي كان يقام عليه وأرغم المهندسين على البدء من جديد في بناء جسر صغير يتكون من 20 قنطرة عرض كل منها 6 أمتار وارتفاعها 4.5 متر.
ويصل المستكشفان مصطبغة ويهبط الجميع من عربة السكة الحديدية، لأن القطار لا يذهب أكثر من ذلك وهما الآن على بُعد 755 كيلومترًا من دمشق، و296 كيلومترًا من معان، و66 كيلومترًا من تبوك.
وكان وصولهما إلى هذا المكان في نهاية شهر مارس 1907 التي وجدا فيها تجمعًا سكنيًا يضم أربع مئة شخص، وينتصب فوق المرتفعات المجاورة معسكران للجنود المخصصين للمحافظة على أمن المنطقة. وتوجد أمامها منازل صغيرة مغطاة بألواح من التوتياء يتجمع فيها عمال ومهندسون من جميع النحل لتنفيذ عمل شاق لثقب أحد الجبال للمرور من مصطبغة عبر البغاث. ويتقدم النفق الذي يبلغ طوله 300 متر خندق رائع محفور في الصخر الرملي المتميز بصلابته، والذي يجب تفجيره بالبارود العادي، لأن استعمال الديناميت محظور في جميع أرجاء الإمبراطورية العثمانية «آنذاك».
مدائن صالح
وصل المستكشفان جوسن وسافينياك إلى مدائن صالح حيث صورا «شعب مبرك الناقة»، والذي يبلغ طوله بحسب قولهما 200 متر، وعرضه 40 مترًا تقريبًا. وهو محاط بصخور ضخمة يبلغ ارتفاعها إلى 100 متر.
ومبرك الناقة بحسب المؤلفين هي الموضع الذي عقر فيه كفار ثمود ناقة سيدنا صالح.. لإنكارهم أنها معجزة ثم قتلهم لها، ما عرضهم لغضب الله سبحانه وتعالى الذي أهلكهم لكفرهم وعصيانهم.
تلة قصر البنت
تحتوي مدائن صالح على أجمل النقوش المنحوتة على واجهة الكتل الصخرية ويبلغ أعلى ارتفاع لها في الشمال 60 مترًا تقريبًا.. وهذه الصخرة من الصخر الرملي الأبيض. ويسهب المؤلفان في تعداد خصائص مدائن صالح وتكويناتها ومعمارها، والمرافق المزينة والرسوم النافرة، والنقوش اللحيانية والنبطية، والمسلات الجبلية، وأجزاء مدائن صالح داخل جبل أثلب وجبل حويرة.
البرنامج اليوم
يثبت المتكشفان برنامجهما اليومي عند توقفهما بمدائن صالح بقولهما:
كنا نرحل كل صباح حاملين معنا على ظهر جمل أفلحنا في شرائه من دركي سلمًا طويلاً يبلغ طوله 9 أمتار، وقربة مليئة بالماء، وأجهزة التصوير، وكل ما نحتاج إليه للتصوير وطبع النقوش. ويرويان معاناتهما في استنساخ النقوش التي كانت تتم بطريقة بدائية، لأن ماكينات الاستنساخ الحديثة لم تكن معروفة آنذاك وكذلك الكاميرات المتقدمة والرقمية. وكانا يستخدمان الورق النشاف المبلول بالماء بإلصاقه على النقوش ويتركانه حتى يجف وبالتالى تطبع عليه النقوش.
يقولان: كان معنا بدوي من مادبا يرافقنا، وأطفال يتحلقون حولنا يعرفوننا بأسماء بعض الأماكن التي سمعوا العرب يكررونها.. زرنا كل المرافق واحدًا واحدًا، وفي كل مرة نكتشف فيها نقشًا كنا نلزم أنفسنا بطباعته.
ولم يكن هذا الأمر سهلاً بالنسبة لهما بسبب الرياح التي تهب بانتظام في كل الليالي وحتى خلال عدة ساعات من الصباح في بعض الأحيان.. إنه أمر عادي أن تتمزق عدة صفحات من الورق قبل الحصول على طبعة جيدة للنقش المطلوب.
ويضيفان: عندما كان النسيم يهب بشدة كنا ننسخ أو نرسم أو بالأحرى نبحث على النقوش، ولا ينقطع العمل سوى مدة قليلة من الوقت عند الظهيرة من أجل وجبة خفيفة نتناولها في الظل الوافر والأثري لأحد المدافن.
وينهي المستكشفان رحلتهما إلى مدائن صالح بعد 15 يومًا من العمل المتواصل.. ويغادران الحجر في يوم 28 أبريل تاركين العلا على بعد ثلاث ساعات إلى الجنوب، ومارين على بعد 14 ساعة من تيماء دون أن يصلا إلى هذا الموقع أو ذاك، ويمتطيان القطار إلى محطة «زيزة».. وعلى طول الطريق توقفا عند تبوك ومعان وعادا للقدس في 23 مايو 1907.
.