وداع المطية
عبدالله بن سعد العمري
رئيس منتدى السرد بنادي أبها الأدبي
لقد كانت العرب تحزن لفراق رواحلها! ويمتلكها من الحزن ما يساوي حزن فقد الأحبة إذا ما نفقت المطية والراحلة!
وقد روى الأصفهاني بعض حكاياتٍ عن تتيم الشاعر بمطيته, وتتيمها به! خصوصًا من كانت خيله تشاركه فرحه وترحه! كانت تشاركه الفرحة إذا حملت على ظهرها محبوبته, وترحه إذا حملت موتاه إلى قبورهم!
إن نوعًا من العلاقة الحميمة تنشأ بين الرجل وراحلته! فمن مزايا الفرس: حبها الشديد لصاحبها, وعشقها له إذا أحسن لها, وحاكاها بعامل الحب لا التسيد!
وكذا الناقة لا يروق لها شيء بقدر ما يروقها راحة يد صاحبها إذا لامست أنفها حنانًا وتهذيبًا..
وقد كانت ناقة النبي، صلى الله عليه وسلم، شهيرة بين الصحابة، رضوان الله عليهم, باسمها وسرعتها وقوتها، فعن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: «كانت ناقة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تُسَمَّى العَضْباء, وكانت لا تُسبق! فجاء أعرابي على قعود له فسبق فشق ذلك على المسلمين، فقال: ما لكم، فقالوا: سُبقت العضباء، فقال: إنه حقُ على الله عز وجل ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعته». البخاري- الفتح ( 6/ 86) رقم:(2872) – كتاب الجهاد والسير – باب ناقة النبي، صلى الله عليه وسلم.
وهكذا ينطبق الشيء نفسه على رواحل هذا العصر, فقد يعشق الإنسان مركبته! فيجد في ريحها طيبًا لا يشمه في غيرها, وذكرى خالدة لا يراها بدونها!
فهذه المركبة يقضي فيها جزءًا مهمًا من الوقت كل يوم, يخاف عليها من غيرها أن تصطدم بها, أو تؤذيها!
يقيها من حرارة الشمس تحت الشجر, ويستر أقدامها عن قسوة الحجر!
إذا أتربت بادر بغسلها, وإذا ظمئت تشمَّرَ وسقاها, حتى إذا جن عليها الليل أقفلها, ودعا لها الله أن يحميها من خطف الذئاب وهوام الليل!
هي نعمة تسبح الله! }وإن من شيء إلا يسبح بحمده...{, بل وتذكر العبد ربه! فإذا حملتك قلت: «سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين, وإنا إلى ربنا لمنقلبون».
وعلاقتها مع الصاحب علاقة أخذ وعطاء! تبادل للفائدة يعطي تنوعًا في المنافع!
فالله وحده الذي يعطي ولا يطلب العِوض! يقول ابن تيمية: «إن المخلوق لا يعطيك شيئًا إلا ويريد منك العوض! حتى العالم إذا وهبك علمه قال: لا تنسنا من دعائك! إلا الله».
ومما يجري به الخبر: أني افتقدت هذه الأيام راحلة لي, سقتني من بردها وحمومها, رافقتني في العسر واليسر, في الضيق والسعة, في اللين والشدة!
أهدانيها الأهل حينما ولجت أروقة الجامعة, فكانت صغيرة حينها, كما قال المجنون في ليلاه:
عشقتك يا ليلى وكنتِ صبيةً وكنتُ ابن سبعٍ ما بلغت ثمانيا!
ولقد كان لنا جميل بثينة شبيهًا, ومنا قريبًا حين قال في بثينة:
علقتُ الهوى منها وليدًا فلم يزلْ إلى اليوم ينمي حبُها ويزيدُ
وأفنيتُ عمري بانتظاري وعدَها وأبليت فيه الدهرَ وهو جديد!
على أن العذال ملازموك في حبك! حتى وإن تكن راحلتك, فكنت أرى بعضهم يغيرون منها فأتذكر قول المجنون:
تُريكَ أَعيُنُهُم ما في صُدورِهِمُ إِنَّ الصُدورَ يُؤَدّي غَيبَها النَّظَرُ
لكنني أشبهت المتزوج الذي فاجأته زوجته بمرض فيها ليس بمنقطع! كقدرٍ من الله أصابها, فأناخها حتى لم تستطع القيامَ «حُمًّا بها»! وحرارة أفقدتها قلبها, فكنت بها في كل مشفىً أخاف فقدها!وأصبحتْ تهيم بي في كل واد كالجنازة الثقيلة!
وإن أخرجتها من سريرها الأبيض قالت: «وا خزياه! ما هذا العقوق؟»..
فكنت أداعبها بقول المجنون:
عَفا اللَهُ عَن لَيلى وَإِن سَفَكَت دَمي فَإِنّي وإِن لَم تَحزُني غَيرُ معاتِبِ
عَلَيها وَلا مُبدٍ لِلَيلى شِــكايَةً وَقَد يَشتَكي المُشكى إِلى كُلَّ صاحِبِ
يَقولونَ تُب عَن ذِكرِ لَيلى وَحُبِّها وَما خَلَدي عَــن حُبِّ لَيلى بِتائِبِ
حتى دخلتْ غيبوبةً أتلفتها لبها, ورشادها! فكنت أمرُّ عليها في المشفى زائرًا, باكيًا أطلالها, داعيًا شفاءها, متمثلاً قول امرئ القيس:
خَليلَيَّ مُرّا بي عَلى أُمِّ جُندَبِ نُقَضِّ لُباناتِ الفُؤادِ المُعَذَّبِ
أَلَم تَرَياني كُلَّما جِئتُ طارِقًا وَجَدتُ بِها طيبًا وَإِن لَم تَطَيَّبِ
وأيقنت موتها في مساء عاصف ماطر, لم أرَ شدة في رمي السحاب حبات برده كذلك المساء, مع إيماننا بأن الشمس والقمر لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته!
فلما ألفيتها ميتة تذكرت قول الشاعر الملقب بالقس:
وإني إذا ما الموت زال بنفسها يزال بنفسي قبلـها حين تُقبرُ!
على أنني هبيت منجدًا, وملبيًا نصائح الأطباء, فاشتريت لها قلبًا حيًا كان في غيرها!
ودفعني إلى ذلك قول المجنون حينما قرر أن يكمل مشواره مع ليلاه, بعدما أضناه الحب, وعلم أنه مُضَحٍّ لا محالة! يقول:
أَإِن سَجَعَت في بَطنِ وادٍ حَمامَةٌ تُجاوِبُ أُخرى دَمعُ عَينِكَ دافِقُ
كَأَنَّكَ لَم تَسمَع بُكاءَ حَمـامَةٍ بِلَيلٍ وَلَم يَحزُنكَ إِلفٌ مَفارِقُ
ولَم تَرَ مَفجوعًا بِشَيءٍ يُحِبُّهُ سِواكَ وَلَم يَعشَق كَعِشقِكَ عاشِقُ
وهكذا: نرتمي في أحضان من نحب, حتى وإن كلفنا ذلك الكثير, فالحب معنى شفاف, لا يعرف مادة التكوين! ولا يعلم ما يلامسه: هل هو قلب أم حجر؟!