المملكة
بحر من الآثار
اكتشاف أول نقش فرعوني في جزيرة العرب وقرية تعود إلى فترة صدر الإسلام.
لم يكن الرحالة الغربي الشهير، سانت بريدجر فيلبي، والذي يعود إليه الفضل في اكتشاف عدد هائل من النقوش الثمودية في شمال الجزيرة العربية، مبالغًا حينما أصرَّ على أن الجزيرة العربية تعوم
على بحر من الآثار. كما لم يكن عالم الآثار السعودي د.أحمد الزيلعي، يضرب بالغيب عندما أكد، منذ ما يقارب العقد من الزمن، ما تحويه مناطق المملكة من مدن أثرية مدفونة، يعج بها باطن الأرض، وعشرات الآلاف من المواقع الأثرية التي لم تكتشف بعد.
قرية من صدر الإسلام
فقد حملت الأشهر الماضية، ما يدلل على صحة ما قاله الرجلان ورسوخه، من خلال كشفين مهمين لهما تأثيرات ودلالات تاريخية بالغة، أولهما ما أعلن عنه نائب الرئيس للآثار والمتاحف بالهيئة العامة للسياحة والآثار، د.علي بن إبراهيم الغبان، من اكتشاف قرية أثرية تعود إلى فترة صدر الإسلام، تتكون من منازل يقدر عددها حتى الآن بـ20 منزلاً، وتحوي غرفًا ووحدات سكنية قائمة، عُثر فيها على قطع من الفخار، والخزف، والزجاج، والحجر الصابوني، والقطع المعدنية، التي يمكن إرجاعها إلى القرنين الأول والثاني الهجري.
تقع القرية شمال الراكة بالخبر، في المنطقة ما بين مدينتي الخبر والدمام، شمال الخط السريع، وجنوب مصنع سافكو للأسمدة سابقًا، وتبعد عن ساحل الخليج نحو كيلومتر واحد جنوبًا. وكان لمشروع التنقيب الأثري القائم، حاليًا، في عدد من مناطق المملكة، أثره في اكتشاف هذه الحفرية، إذ بدأت أعمال التنقيب في هذا الموقع، قبل نحو شهرين من اكتشاف القرية، من خلال فريق سعودي مؤهل، من مكتب الآثار بالمنطقة الشرقية، بإشراف ومتابعة من قطاع الآثار والمتاحف بالهيئة العامة للسياحة والآثار.
مرحلتان معماريتان
من خلال قراءة قطع الفخار، والخزف، والزجاج، والحجر الصابوني، والقطع المعدنية التي يمكن إرجاعها إلى القرنين الأول والثاني الهجري، يمثل الموقع فترة سكنى واستيطان واحدة، تعود إلى فترة صدر الإسلام والعصر الأموي، وربما بداية العصر العباسي. وقد أمكن تمييز مرحلتين معماريتين بالموقع، المرحلة الأولى تعود إلى بداية سكنى الموقع، ويمكن تأريخها بفترة القرن الأول الهجري، والمرحلة الثانية أدخلت فيها تعديلات على التصميم الأصلي للوحدات السكنية، وتعديلات في المدخل، وإضافات إلى بعض المرافق، ورفع لمستوى الأرضيات القديمة. ويمكن نسبة هذه المرحلة إلى نهاية القرن الأول، وفترة القرن الثاني الهجري. وإضافة إلى المقتنيات التي عُثر عليها، فقد تم التقاط عدد من نوى التمر، وكمية من حبات التمر، بعضها مكتمل، أخذت منها عينة للتحليل بالكربون 14. كما عثر بالموقع على كميات كبيرة من القواقع والمحار وعظام الأسماك، التي يبدو أن سكان الموقع كانوا يعتمدون عليها، بالإضافة إلى التمر في غذائهم.
غرفتان للتمور
قد بلغ مجموع المنازل المكتشفة 20 منزلاً حتى الآن قابلة للزيادة، مع أعمال التنقيب الجارية. والمنازل موزعة على ثلاث مجموعات متباعدة، بعضها مترابط وبعضها الآخر منفصل، ويتكون كل منزل من مبنى أبعاده 16×12 مترًا في المتوسط، ويحتوي على ثلاث غرف أو أربع غرف مختلفة الأحجام، وفناء خارجي بمدخل مستقل، وإحدى هذه الغرف، وأحيانًا اثنتان، استخدمتا لتخزين التمر واستخراج الدبس «عسل التمر»، ويستدل من أسلوب بنائهما على أنهما استخدمتا لهذا الغرض، مقارنة بما ظهر في حفرية ميناء العقير، وهو أسلوب مستمر إلى القرون المتأخرة في المنطقة.
تشتمل المدبسة على أرضية مكونة من قنوات مجصصة تتجه بانحدار، وتصب في مخزن صغير أسفل الأرضية المجصصة «جابية أو مجبى»، وأبقي نحو ثلث أرضية الغرفة كمنطقة حركة داخل المخزن. وللغرفة مدخل صغير له عتبة خارجية مليسة بالجص، وجدران الغرفة مكسوة بلياسة جصية، أما بقية الغرف فكانت تستخدم للمعيشة، وبالإضافة إلى هذه الغرف، يشتمل المنزل على فناء خارجي يحتوي على عدد من الأفران بنظام التنور. ومن خلال وجود طبقة رماد في الفناء وأدلة أخرى، يمكن الاستدلال على وجود سقف من الخشب كان يظلل مكان الأفران.
آبار وجرار فخارية
أمكن تمييز ثلاثة تلال أثرية رئيسة بموقع الحفرية، الأول يقع في الجهة الشمالية، وقد أعطي اسم منطقة «أ»، والثاني متوسط وحمل مسمى منطقة «ب»، والثالث في الجهة الجنوبية وسمي منطقة «ج»، حيث تنتشر على سطح الموقع، خصوصًا في منطقة التلال الأثرية، كسر من الفخار والخزف والزجاج، يمكن نسبة تاريخها إلى الفترة الإسلامية المبكرة، كما تُرى امتدادات لجدران مبنية بالحجر في كل الاتجاهات.
ولتوثيق عملية التقاط اللقى السطحية، وللتجهيز لعملية الحفر الأثري، تم إعداد خارطة كنتورية لكامل الموقع، وخارطة أخرى شبكية، تقسم الموقع المستهدف بالحفر إلى شبكة مربعات، ضلع كل منها عشرة أمتار، مع فاصل بكل مربع، بعرض متر واحد، وإجراء مسح أثري لسطح الموقع التقطت خلاله عينات من اللقى السطحية. وفي ضوء نتائج هذا المسح وقع الاختيار على المنطقة «ب» الأكثر ارتفاعًا لبدء عملية الحفر، حيث تم حفر 24 مربعًا في المنطقة «أ»، وعدد مماثل في المنطقة «ب».
ويوجد على مقربة من كل مجموعة من مجموعات المنازل الثلاثة، التي تتكون منها القرية، نظام مائي يتكون من بئر دائرية الشكل، مطوية بحجارة متوسطة الحجم، غير منتظمة في جزئها العلوي، وحجارة بحرية «فروش» في جزئها السفلي، تم جلبها من ساحل البحر القريب، وقطر البئر متران من الداخل، وهي غير منتظمة الاستدارة، ويتصل بها بناء بيضاوي الشكل، يتكون من حوض تجميع مياه، مزود بقناتين لتصريف المياه، إحداهما تصب ناحية الشمال، والأخرى ناحية الجنوب الشرقي. وقد أدخل في نظام بناء القناتين جرار فخارية للتحكم في كميات المياه الخارجة.
رمسيس الثالث مرَّ من هنا
أما الكشف الثاني بالغ الأهمية، والذي يُتوقع أن تكون له نتائج أعظم أثرًا في الأيام المقبلة، فهو اكتشاف أول نقش هيروغليفي في الجزيرة العربية، يعود إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، على صخرة ثابتة بالقرب من واحة تيماء، يحمل توقيعًا ملكيًا «خرطوش مزدوج» للملك رمسيس الثالث، أحد ملوك مصر الفرعونية، الذي حكم مصر بين «1192 – 1160» قبل الميلاد.
واكتشف علماء الآثار السعوديون النقش، بالقرب من واحة تيماء التاريخية الشهيرة، التي تعد من أكبر المواقع الأثرية في المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية، إذ تبلغ أطوال ما تبقى من الأسوار الأثرية، التي تحيط بها في الوقت الراهن 13 كيلومترًا.
وتم العثور على خرطوش الملك رمسيس الثالث قبل أربعة أشهر تقريبًا، وأثار العثور عليه بالقرب من تيماء في منطقة تبوك تساؤلاً كبيرًا لديهم، حول أسباب وجوده في عمق الشمال الغربي للجزيرة العربية.
وأجرى علماء الآثار السعوديون بحثًا ميدانيًا ومكتبيًا، توصلوا من خلاله إلى وجود طريق تجاري مباشر، يربط وادي النيل بتيماء، كان يستخدم في عهد الفرعون رمسيس الثالث، في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وتسير عليه القوافل المصرية للتزود من تيماء بالبضائع الثمينة، التي اشتهرت بها أرض مدين، مثل: البخور، والنحاس، والذهب، والفضة.
ومن خلال البحث تم التوصل إلى أن الطريق الذي يربط وادي النيل بتيماء، محدد بتوقيعات ملكية «خراطيش» للملك رمسيس الثالث، وضعت على مناهل في شبه جزيرة سيناء والجزيرة العربية.
ويمر مسار الطريق بعد وادي النيل بميناء القلزم، ثم مدينة السويس، حيث يوجد معبد للملك رمسيس الثالث، ثم يسير بحرًا إلى سرابيط الخادم، بالقرب من ميناء أبو زنيمة على خليج السويس، حيث عثر هناك على نقوش للملك رمسيس الثالث، أيضًا، ثم يعبر شبه جزيرة سيناء بشكل عرضي، ويمر بمنهل وادي أبوغضا، بالقرب من واحة نخل، حيث عثر فيه، أيضًا، على خرطوش مزدوج مماثل لخرطوش تيماء يحمل اسم الملك رمسيس الثالث، ثم يتجه الطريق إلى رأس خليج العقبة، ويمر على موقع نهل، ثم موقع تمنية، وقد عثر في كل منهما على خرطوش مزدوج للملك رمسيس الثالث يماثل خرطوش تيماء، كما توجد إشارة في بردية للملك رمسيس الثالث إلى إرساله أناسًا لجلب النحاس من بلد مجاور.
تبادل حضاري منذ القدم
يشكل اكتشاف هذا الطريق نقطة تحول في دراسة جذور العلاقات الحضارية بين مصر والجزيرة العربية، إذ لم يستخدم الطريق لمناسبة واحدة، وهناك المزيد من المعلومات سيتم الكشف عنها في المستقبل، مع توقع وجود خراطيش أخرى على مسار الطريق لرمسيس الثالث أو غيره من ملوك مصر، في منطقة حسمي، التي تفصل وبطول 400 كيلومتر بين تيماء ورأس خليج العقبة، وتتميز بواجهاتها الصخرية البديعة التشكيل والصالحة للكتابة والنقش.
وهناك ربط بين الكشف التاريخي المهم، وما تم العثور عليه في السابق من عدد من اللُقى الأثرية الصغيرة المصنوعة بمصر، في عدد من المواقع الأثرية في السعودية، مثل مدافن جنوب الظهران في المنطقة الشرقية، وفي الفاو عاصمة مملكة كِندة الواقعة في الجنوب الغربي لهضبة نجد، وفي تيماء نفسها. ومعظم هذه القطع عبارة عن «جعلان» من الخزف المغطى بطلاء أزرق تركوازي، يعود تاريخها إلى فترات مختلفة، بما يسهم في إبراز البعد الحضاري للمملكة العربية السعودية وصلاتها الحضارية، ودورها في الحوار والانفتاح على حضارات العالم القريبة والبعيدة عن الجزيرة العربية في مختلف العصور. وهذا الكشف هو واحد من سلسلة اكتشافات جديدة سيعلن عنها في حينها تباعًا، بعد استكمال دراستها، والتحقق من جميع الجوانب المرتبطة بها، ويعد ثمرة من ثمار البرامج البحثية والأعمال الميدانية الأثرية بالمملكة، من خلال فرق محلية ودولية متخصصة، وباستخدام أساليب علمية وفيزيائية حديثة للتحليل والتأريخ والمسح والاستكشاف، وقد أسفرت هذه الأعمال عن نتائج مقترنة بأدلة أثرية مادية، ومعلومات تضيف الكثير إلى العلاقات التاريخية لشبه الجزيرة العربية بما جاورها من دول، بما يؤكد أن الجزيرة العربية، وبحكم موقعها الجغرافي، كانت، دومًا، أرضًا للحوار، والالتقاء، والتبادل السلمي بين الحضارات عبر جميع العصور.