June2010Banner

 


الهرة الصغيرة

دخل الأب خالد إلى بيته وهو يحمل علبة من الورق المقوَّى يظهر منها جزء من رأس هرة بيضاء وقد أنصبت أذنيها، وهرع الأولاد يرحبون بأبيهم ويسلمون عليه، وقال ابنه عمر: ما هذا الذي بيدك يا أبي؟ تبسَّم الأب ثمَّ انحنى واضعًا العلبة على الأرض، فظهرتْ فيها هرة بيضاء جميلة ذات عينين زرقاوين تجيل نظرها فيما حولها وهي تموء، ثم حاولتْ أن تخرج من العلبة فلم تستطع، لأن رِجلها مربوطة بقطعة من الشاش قُرنت بعصا صغيرة.
انحنى الأب وأخرج الهرة من العلبة ووضعها على الأرض إلى جانب رِجله، فراحت تلعق رِجلَه وحذاءه وهي تحرِّك ذيلها في إشارة تودُّد ومحبة وشكر للأب. وقالت ليلى: إن هذه الهرة جميلة جدًا وودودة، ولكن من أين أحضرتها؟ ولماذا؟ ولِمَ هي مربوطة الرِجل؟
أجاب الأب: كنتُ مارًا في الشارع، وكانت هذه الهرة تقطع الشارع فإذا بدراجة مسرعة يقودها غلام طائش يدوس هذه الهرة ويتركها تتلوَّى على الأرض، وهي تموء بشدة من عظيم ألمها، وقد أثَّر هذا المنظر فيَّ، وقلت: إنْ تركتها فلا ريب ستمرُّ سيارة فتدعسها، أو أنها ستبقى دون طعام أو شراب، وتموت بسبب ذلك، وتذكرت قول الرسول، عليه الصلاة والسلام: «دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي سقتها ولا هي تركتها تأكل من خَشاش «طعام» الأرض حتى ماتت»، وقد أصبحتُ مسؤولاً عنها عند الله، لأني رأيتُ حالتها وعلمتُ أنها ستموت إنْ تركتها، لذا حملتها وذهبتُ بها إلى المستوصف البيطري، ورأى الطبيب أن رِجلها مكسورة فجبرها بأن وضع لها عصا موازية لساقها المكسورة وربطها بضماد مقوى بالجبس، ونحن سنعتني بها، إن شاء الله، حتى تبرأ، لذا أحضروا لي طبقًا من القش وضعوا ضمنه قطعة قماش طرية وناعمة، وأحضروا طبقًا لنضع فيه الأكل، وطبقًا آخر تضع فيه مخلفاتها وقاذوراتها.
قفز الأولاد فرحين، وقالت سعاد: أتعلم يا أبي أني منذ زمن بعيد كنت أتمنى أن يكون عندنا هرة نتسلى بها وتضحكنا بحركاتها، وها قد أحضرتَ لنا واحدة، فشكرًا لك.
قال الأب: ألا تعلمون يا أولادي أن الذي يربي حيوانًا لا بد أن يعتني به، فالذي يربي عصفورًا لا بد أن يعتني به، فيضع له الطعام والماء وأن ينظف قفصه، وهذه الهرة إذا أردتم أن تشفى، بإذن الله، فيجب أن تعتنوا بها، فهل أنتم مستعدون لذلك؟ وصاح الأولاد بصوت واحد: نعم يا أبي.
قال الأب: قبل أن أوزِّع الواجبات عليكم، أريد أن أخبركم بأن الطبيب أنبأني بأن الهرة حُبْلَى، لذلك فهي بحاجة إلى عناية خاصة. والآن من يتكفل بطعامها؟ صاحت سعاد: أنا. ومن يتكفل بمائها؟ قال عمر: أنا. ومن يتكفل بتنظيفها؟ قالت ليلى: أنا. وقال الأب ومن يتكفل بتنظيف قاذوراتها؟ وانتظر أن يقول حسام: أنا، لكنه لم يتكلم.
وقال الأب: ألا تريد أن تساعدنا؟ قال: بلى، ولكن أريد أن أعلم ما فائدة الهرة في البيت يا أبي، وأنا أراها دائمًا في الشارع؟
قال الأب: أحسنتَ بسؤالك يا بني، فإن الرسول، عليه الصلاة والسلام، وصف الهرة بأنها من الطوافين علينا والطوافات، ففي الوقت الذي ننام فيه فإن الهرة لا تنام، بل تروح تطوف في البيت، فإنْ وجدتْ حشرة كالصرصور، أو العقرب، أو العنكبوت فإنها تقتلها فتنقذنا من شرِّها، وإنْ وجدتْ فأرة أو جرذًا أو أفعى قتلته، وهي بعد لطيفة المعشر، حسنة السلوك، لا تؤذي، وتلعب ألعابًا حلوة وجميلة ومضحكة، وسأريكم حين تشفى بعض ألعابها الطريفة.
مضت بضعة أيام أخرى، وكان الوقت صباحًا، وجاء الأب لينظر: هل عند الهرة طعام، فرأى منظرًا عجبًا، إذ كانت بضعة جراء قد ولدتها الهرة في الليل ملتصقة ببطن الأم، وقد التقمت أثداءها وهي ترضع، ونادى الأب أبناءه، فجاؤوا، وإذا بمنظر الجراء المدهش، فراحوا يصيحون ويصفقون فرحًا، وبادر كل واحد يقول: هذا الجرو لي، ويقول أخوه وأنا سآخذ الجرو الثاني، وهكذا... وقال الأب يجب ألا تنسوا واجباتكم نحو هذه الجراء من إطعام وسقاية وتنظيف.
كان حسام مطرقًا إلى الأرض يفكر، فرآه أبوه فقال: ما لك يا حسام أراك صامتًا تفكر؟ وأجاب حسام: كنت أفكر عن الفائدة التي نحصلها من وراء تعبنا بتربية هذه الجراء، فهلا ساعدتني يا أبي؟ وقال الأب: على الرحب والسعة، فأولاً ستستفيد أجرًا وثوابًا على إطعامك هذه الحيوانات وإسقائها، لأن الرسول، عليه الصلاة والسلام، قال: «وفي كل كبد رطبة أجر»، فلك بها أجر عند الله، وقال حسام: إن هذا أمر يدعو إلى الإعجاب، وقال الأب: إن الأمر مدهش أكثر مما تتصور، فقد ورد في الحديث الشريف الصحيح أن امرأة سيئة السلوك كثيرة السيئات كانت في صحراء وقد أتعبها العطش فوجدت بئرًا فنزلت فيها فشربت، فلما صعدت منها وجدت كلبًا يكاد يسف التراب من عطشه، فقالت إن حال هذا الكلب كحالي قبل أن أشرب، فعادت ونزلت في البئر وأرادت أن تملأ للكلب ماء ولم يكن معها وعاء فخلعت حذاءها وملأته ماء ثم حملته بفمها، لأنها كانت مضطرة إلى استعمال يديها الاثنتين في النزول إلى البئر ثم سقت الكلب، فشكر الله لها عملها فغفر لها ذنوبها. فقال حسام: يا الله! كم الله غفور رحيم! فهو يغفر أعظم الذنوب بأبسط الأعمال الطيبة التي نصنعها.
وما لبثت الهرر أن كبرت وأصبحت قادرة على التجول في الغرف والقفز فوق المقاعد والمناضد والخروج إلى الشرفة، ما زاد البهجة في قلوب الأولاد والتعلق بها.
وفي ذات ليلة أوى الأولاد إلى سررهم، ولم يمضِ وقت قصير على غفوة عمر حتى هبَّ من نومه، فقد كانت إحدى الهرر تموء وبشدة وكأنها على نافذة غرفته، فقام إلى النافذة وفتحها وهو مستغرب أن تصل الهرة إلى نافذته، ولكن زاد المواء وحدق عمر باتجاه الصوت، فإذا به يرى هرته على غصن الشجرة القريبة من نافذة غرفته وكلب الجيران واقف تحت الشجرة ينظر إليها، فطرد الكلب ولكنه احتار كيف ينقذ الهرة من على غصن الشجرة، فهو لا يعرف تسلق الأشجار، فعاد إلى سريره لكنه لم ينمْ من شدة مواء الهرة، ومضى الليل عليه ثقيلاً ولم يغمضْ له جفن وهو يفكر: كيف وصلتْ الهرة إلى الشجرة؟ وهداه الله إلى أن الهرة تسللتْ من البيت وظلت في الشارع حتى حلَّ الظلام، وقد أغلق باب الدار، وأطلق الجيران كلبهم كعادتهم حين يحلُّ الظلام، فرأى الهرة وهجم عليها، ومن خوفها لم تجد سوى الشجرة تتسلقها، وحين حان وقت الفجر هبَّ للصلاة ومواء الهرة يقرع رأسه كالمطرقة، فلقي أباه خارجًا للصلاة فأخبره بأمر الهرة، فقال له أبوه: لا تقلق سننقذها بعد الصلاة.
أحضر الأب السلم وأسنده إلى الحائط قريبًا من الشجرة، وصعد عليه حتى إذا صار قريبًا من الهرة الصغيرة مدَّ يده ليمسكها، فإذا هي تقفز إلى صدره وتتمسك به، وحين وصل إلى الأرض قفزتْ الهرة الصغيرة إلى الأرض، فأسرعت الأم إليها وهي تلعق شعرها ووجهها، والصغيرة تتمسح بجسد أمها، في منظر عجيب مدهش، وجاءت بقية الهررة فأحاطت بأختها وكأنها تهنئها على سلامتها، وسريعًا ما أحضر عمر طبقًا من الحليب ووضعه أمام الهرر حيث لعقت الحليب بنهم وشغف.
شَكر الأولاد أباهم لأنه ملأ حياتهم سعادة بإحضار الهرتين الكبيرة والصغيرة، وقالت سلمى: أتعلم يا والدي.. سأظل أرعى هرتي حتى تكبر وتنجب أولادًا سأهديها إلى أصحابي وأقاربي حتى ينتشر بين الناس حُبُّ الحيوانات والرفق بها والإحسان إليها.