ميناء عدن
هبة الجغرافيا للتاريخ
حلم العودة يراود ميناء عدن، قبلة قوافل الماضي، وشمسها الغاربة.
من يتصور أن ميناء عدن الذي يتوسط الخطوط الملاحية بين شرق الأرض وغربها، وكان يعد من بين أهم موانئ العالم، يتربع على فوهة أكبر بركان خامد عرفه التاريخ الجيولوجي. حقيقة على ما تثيره في النفس من فزع، إلا أنها لا تلبث أن يعتريها خمود مثل خمود بركان عدن، أمام جمال واقع الميناء الخلاب.
ملاذ السفن العابرة
على الساحل الجنوبي للجمهورية اليمنية من خليج عدن، شرق باب مضيق باب المندب الذي يمثل البوابة الجنوبية للبحر الأحمر، ويحظى بأهمية استراتيجية بالغة على الخط الملاحي الدولي بربطه الشرق بالغرب، يتربع ميناء عدن على بعد نحو أربع عقد «أربعة أميال بحرية» عن الخطوط الملاحية الدولية. ولقد أغرى قِصَر المسافة على هذا النحو السفن العابرة بتغيير اتجاهها والدوران في اتجاه الميناء للتزود بالوقود، وأخذ قسط من الراحة من عناء الرحلة في مرافق الميناء الذي ينتظرها بين جبل شمسان البالغ ارتفاعه 554 مترًا عن مستوى سطح البحر، وجبل المزلقم الذي تبلغ أعلى قمة فيه 374 مترًا، ما يجعل من ميناء عدن ملاذًا آمنًا للسفن للاحتماء به من الرياح الموسمية الشمالية الشرقية والجنوبية الغربية، ومن الأمواج المتلاطمة، فأرصفته على أهبة الاستعداد لاستقبال السفن الراسية عليها طوال أيام فصول العام، بما تتمتع به من أمن ورحابة، إذ تبلغ مساحة الميناء ثمانية أميال بحرية من الشرق إلى الغرب، وخمسة أميال بحرية من الشمال إلى الجنوب، ما يدل على أن الميناء رحب وفسيح يمكن للسفن الضخمة أن ترسو فيه بأمان.
يتألف الميناء من الميناء الخارجي، ويستخدم لرسو السفن والتزود بالوقود، والميناء الداخلي، وفيه تقدم خدمات الإرشاد ومناولة البضائع.
هبة الجغرافيا للتاريخ
بوسعنا القول إن ميناء عدن هبة الجغرافيا للتاريخ، فالجغرافيا هي التي أتاحت لهذا الموضع العالي التفرد بتلك المكانة التي صنعت تاريخه على مر العصور، إذ هو أحد موانئ العالم المحمية من العواصف وأمواج البحر، بما توفره تضاريس الأرض المحيطة به من حماية طبيعية لحدوده في مواجهة هجمات البحر، فأصبح ذلك المكان الأمثل لرسو السفن، ما هيأ لنمو التجمعات السكنية حوله، ومن ثم ولادة مدينة ربيبة الميناء.
ولا يجاري ميناء عدن في هذه الطبيعة الخاصة إلا موانئ بعينها من بين موانئ العالم، منها: ميناء بليموث في إنجلترا، الذي كان مستهدفًا إبان الحرب العالمية الثانية، وميناء بالتيمور في الولايات المتحدة. ولعل أستراليا هي أكثر القارات اشتهارًا بوجود الموانئ الطبيعية فيها. أما ميناء عدن الذي يتربع على حافة منطقة الشرق الأوسط، فيتفرد بينها جميعًا بأنه الميناء الطبيعي الأكبر في العالم، وأيضًا الأقوى حضورًا على صفحات التاريخ.
فلميناء عدن من القصص التاريخية ما تضيق بها المؤلفات، وصدور البحارة الأوائل. يرجع تاريخ ميناء عدن إلى ما قبل الميلاد. ويحار المؤرخون فيما إذا كانت عدن سبقت الميناء أم أن الميناء هو الذي سبقها. وأمام تاريخ هذا الميناء الطويل الذي يعود إلى قرون غابرة، وتعاقبت عليه دول وأمم، تتعذر الإجابة عن سؤال مثل هذا. ولعل أول مملكة استخدمت ميناء عدن كانت مملكة أوسان التي حكمت ما بين القرنين السادس والسابع قبل الميلاد، وساعدها ازدهارها الاقتصادي الذي كفله موقعها المميز قرب خليج عدن على أن تجمع حولها الأحلاف والقبائل وتنفصل عن مملكة حمير، وتُؤسس دولة امتد نفوذها إلى الهند وأفريقيا، بفضل موقعها المميز الذي جعل ميناءها سوقًًا تجارية وخطًا ملاحيًا مهمًا، تقف فيه السفن المقبلة من الهند محملة بالبهار والتوابل، ثم تواصل رحلتها إلى بلاد الإغريق، ما جعل مملكة أوسان تبني علاقات تجارية مع أكبر الممالك في ذلك الوقت بفضل هذا الميناء الذي مثَّل عصب الحركة التجارية العالمية في تلك العصور، وجعل عدن مطمعًا للغزاة، فتعاقب عليها القراصنة والمكتشفون. أما في العصر الحديث فأغرت عدن المستعمر البريطاني، فموقع مينائها الاستراتيجي كان يمثل بالنسبة له نقطة اتصال بين المستعمرات البريطانية، ومركزًا لتمويل سفنها بالوقود والمؤن.
على فوهة البركان
مع هذا الشعور الكامل بالأمان بين جنبات ميناء بهذه الإمكانات الحمائية الطبيعية المذهلة، قد يعتري العابر خوف حين يعلم أن ميناء عدن الرحب الفسيح الآمن الذي ألجمت طبيعته صولات البحر وجولاته طوال آلاف السنين. يتربع على فوهة بركان خامد صنفته البعثة الملكية البريطانية لعلوم البراكين عام 1964 بأنه أعظم بركان خامد عرفته البشرية، بل إن جميع البراكين أمام «بركان عدن»، حسب وصف البعثة، ليست سوى ألعاب نارية.
سميت عدن من قبل البعثة البريطانية في ذلك الوقت بـ«كريتر»، أي «فوهة البركان»، هي وميناؤها الذي ظل صامدًا، حتى إنه صُنف في الخمسينيات الميلادية ثالث أكبر ميناء في العالم لتزويد السفن بالوقود والمؤن بعد ميناءي نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، وروتردام في هولندا. لكن مع إغلاق قناة السويس عام 1967 تقلصت أهميته بقلة عدد السفن الواردة إليه، وتراجع دوره التجاري كثيرًا وضاق بالصمود، فتراخى الميناء وتضاءلت جاهزيته.
لكن الميناء الذي يحمل هذا التاريخ يهيمن عليه حنين جارف إلى احتضان سفن التجارة المقبلة من الشرق والمتجهة إلى الغرب في حوضه، فلعل عبق الماضي الطيب يعود. ربما أيام التوابل والعطور والطين المحروق ولت، لكن التباشير المقبلة من الشرق إلى الغرب تعلن عن عهد جديد، وتجارة جديدة، وعصر يعيد إلى ميناء عدن بريقه وعبقه القديم.