سوق العلوي
حكاية اليوم وحديث الأمس
سميت السوق بهذا الاسم نسبة إلى السيد أبي بكر العلوي المدفون في تلك المنطقة.
تذكر بعض الروايات الشفهية أن هذا الطريق سلكه الخليفة عثمان، رضي الله عنه، متجهًا إلى البحر، حين أمر بتحويل ميناء مكة المكرمة من الشعيبة إلى جدة، ورغم عدم تثبتي من التحديد، إلا أن هناك ما يثبت قِدم شارع العلوي الذي يقع في قلب جدة القديمة، متوسطًا بين شامها ويمنها، وواصلاً بين طريق البحر من جهة، وشارع قابل وباب مكة من جهة أخرى، وعلى مقربة منه يوجد مسجد الأبنوس، حيث ترجع المصادر تاريخ بنائه إلى عهد عثمان، رضي الله عنه، وحتى عهد قريب كان طريقًا للحجاج القادمين من جهة الميناء عبر باب البنط، سالكين شارع قابل حتى الصعود للعلوي الذي يرتفع عدة أمتار متجهين شرقًا، حيث تأخذهم القوافل من باب مكة إلى البلد الحرام.
تأخذك الشوارع والأزقة الصاعدة على يساره لجهة الشمال إلى داخل حارة المظلوم التي تضم أقدم المعالم الموجودة في جدة، فبها المسجد العتيق الذي ينسب بناؤه إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ومسجد الأبنوس، وعين فرج يسر، فضلاً عن البيوت العتيقة الطاعنة في القدم التي يزخر بها الحي كغيره من أحياء جدة القديمة، وإلى يمينه تقع حارة اليمن، ويطل على سوق العلوي منها ثلاثة من أهم بيوت جدة القديمة، وهي على الترتيب الذي يراه القادم: بيت نور ولي، وبيت نصيف، ثم بيت المتبولي.
وقد سمي السوق بهذا الاسم نسبة إلى السيد أبي بكر العلوي المدفون في تلك المنطقة.
والسوق هو طريق كبير يتسع أحيانًا حتى يشكل برحة واسعة تلتقي عندها عدة طرق، كما عند برحة نصيف «البرحة هي الباحة بلهجة جدة الدارجة»، وتضيق أخرى لتتلاقى الرواشين المطلة على الجانبين وتلقي بظلها على السوق الذي أفقده اتساعه وطوله السقوف التي كانت تتخذ لغيره من الأسواق.
ويلاحظ السائر في شارع العلوي انحداره عن الأزقة المتفرعة من الجهتين في اتجاه حارتي المظلوم واليمن، رغم أنه يمثل منحنى صاعدًا نحو الشرق، وهذا ما يوحي إليَّ بأنه كان منذ القدم يشكل حدود هذين الحيين، حتى إنك تجد بعض الأحيان سلالم صاعدة إلى داخل الحي. ومن المعروف أن الناس قديمًا كانوا يتجنبون البناء في الأماكن المنخفضة، كما أن تراكم البناء عبر القرون يزيد ارتفاع المناطق السكنية في المدن القديمة، ما يؤيد مقولة بقاء هذا السوق على حاله منذ القدم، يسلكه القادم من مكة لجهة البحر.
معالم السوق
حين تنتهي من شارع قابل تجد أمامك سلمًا صاعدًا ولافتة مكتوبًا عليها سوق العلوي، تعبر شارع الذهب متجهًا إلى الشرق فتكون في مدخل السوق من الجهة الغربية، والذي يقودك حتى باب مكة شرقًا.
تزدحم المنطقة بالجموع السائرة جيئة وذهابًا، وتحيط بك محال يمتلئ أغلبها بالبضائع الصينية والهندية الرخيصة، من ملابس وأحذية وعطور، وألعاب، واكسسوارات، تشعر بالدوار وأنت تتأمل هذا الكم الهائل من البضائع. وإذا انعطفت في أي اتجاه داخل الحارات فستجد المزيد والمزيد من البضائع نفسها، وستقابل بشرًا من كل الجنسيات، يبيعون ويشترون، أو ربما يسيرون بلا غاية سوى تزجية الوقت.
رغم كل ما أصاب شارع العلوي من تغيرات يظل، كغيره من مناطق جدة القديمة، محتفظًا بكثير من ملامحه، تطل عبر الرواشين العتيقة التي نال الزمن من كثير منها، تسيل دموعها من الشقوق، فلا يراها إلا الذي درج يومًا ما هنا، وتغذت طفولته الغضة من الشمس الدافئة الحنون التي كانت تتوارى خلف ظلالها.
تسترجع ذاكرتك القليل، وتستعين بروايات من عاصروا العهد القديم.. ربما كانت «قهوة حسنين» هنا في هذه البقعة التي تفترشها البسطات، حيث يتجمع رجالات الأحياء القريبة في المساءات الرائقة يستمعون إلى الراوي بطريقته الخاصة، يروي سيرة عنترة، والزير سالم، وأبو زيد الهلالي، تتعالى أصواتهم حين يعلن نهاية السهرة وعبلة لا تزال في الأسر، فيرجعون إلى بيوتهم أو تنقلهم سهرات جدة التي لا تنام إلى مجالس أخرى يختلط فيها الغناء بالذكر وألعاب بريئة ينسون بها كد النهار.
يعلن أذان الفجر الذي يتصاعد من مسجد المعمار في الجهة الغربية ومسجد المغربي في الشرق قدوم نهار آخر، ويخرج المصلون متجهين إلى باعة الفول ثم إلى فرن البخاري للتزود بالتميس الساخن، ثم ينصرف كل إلى شأنه على أن يجتمعوا في المساء أو في فترات الراحة في المقاهي المنتشرة في الشارع.
وعندما ترك الراوي مكانه للتلفاز، اقتنصت «قهوة رجب»، التي كانت موجودة في باحة في أعالي السوق، الفرصة لتجتذب أكبر عدد من الرواد للفرجة على القادم الجديد.
مسجد المعمار
أول ما يجده القادم من الجهة الغربية إلى يساره من جهة حارة المظلوم، مسجد المعمار، وينسب بناؤه إلى مصطفى معمار باشا، الذي كان واليًا على جدة عام 1284هـ، وهو بناء مرتفع عن الأرض يصعد إليه بسلالم، وتقع في مواجهته مكتبة عبدالرحمن نصيف التي تضم مخطوطات مهمة وكتبًا نادرة، وقد تعرضت قبل فترة للحريق الذي نال جزءًا منها، فشوهدت الكتب والمجلدات التي لا تقدر بثمن وقد أكلتها النيران، مخلفة حسرة في قلوب كثيرين ممن يعرفون قيمة ما تحتويه هذه المكتبة وفضل صاحبها الذي لم يبخل بمحتوياتها على طلاب العلم.
ويلي المكتبة كنز آخر من كنوز جدة القديمة، وهو بيت نور ولي، الذي ينتصب عاليًا بطوابقه الأربعة، متباهيًا برواشينه الخضراء، التي لا تزال محتفظة بجمالها، ويحتوي البيت على نظام لتخزين الماء، ففي أعلى السطح مرزاب «ميزاب» تجمع من خلاله مياه الأمطار عند هطولها إلى صهريج أرضي، وكان تجميع مياه الأمطار واستهلاكها على مدار العام وسيلة يقاوم بها سكان جدة مشكلة شح المياه التي عانوا منها منذ القدم، كما توجد بئر في أسفل البيت.
بيت نصيف
على مسافة غير بعيدة يتسع الشارع مشكلاً باحة يطل عليها بيت نصيف الأثري، وترتفع أمامه شجرة النيم التي استمرت لعقود الشجرة الوحيدة في جدة، تقع ظلالها على البسطة الممتدة أمام الدار، اتخذت منها مجلسًا، وظللت أتأمل المكان من حولي، كان بيت نصيف مغلقًا، طاويًا أسراره عن العابرين، محتفظًا بجلاله وصمته بأحداث شهدتها جنباته غيَّرت من تاريخ هذه المدينة.
الملك المؤسس
يحتوي بيت نصيف على قيمة فنية معمارية، وقيمة أدبية وتاريخية، فهو على حداثة بنائه بالنسبة للعديد من المباني التي تضمها المنطقة التاريخية، بني في عام 1289هـ، إلا أنه يعبِّر عن تطور في طرازه المعماري، وتبلغ مساحة البيت 900 متر مربع، ويحتوي على أربعين غرفة، وفيه نظام تبريد للجو يتمثل في فتحات «ملقف الهواء» لتلطيف الطقس، وبه حمَّام تركي، وأيضًا صهريج لتجميع مياه الأمطار، ويحتوي على مكتبة عظيمة تضم آلاف الكتب القيمة، أهديت بعد وفاة عمر أفندي إلى جامعة الملك عبدالعزيز. ويتكون البيت من قسمين، غربي ويتكون من أربعة طوابق، أما الشرقي فيتكون من ثمانية طوابق، خصصت للنساء، وكان فيه أول مقر لمدرسة نسائية، هي المدرسة النصيفية.
اكتسب بيت نصيف أهمية منذ أن نزل فيه الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، على ضيافة صاحب البيت الشيخ عمر أفندي نصيف في عام 1925، وجرى فيه توقيع اتفاقية تسليم جدة، كما شهد البيت استقبال الملك عبدالعزيز للعديد من الرؤساء والملوك.
ولأهمية البيت قامت الدولة في عهد الملك فيصل بشراء البيت وتحويله إلى أمانة مدينة جدة، ومتحف بيت نصيف الآن من أهم المعالم التي يزورها كبار الشخصيات القادمة إلى جدة.
تلك الرائحة
من مكاني تحت الشجرة العتيقة، لاحظت أن المحل الموجود أمامي بلافتته الحديثة، لا علاقة له بالمكان، محل لبيع المكسرات، تذكرت «دكان يعقوب» في الموضع نفسه، كان يثير بهجتنا صغارًا بموجوداته التي لا تشبه غيرها في السوق، مكسرات الزمن القديم كان لها اسم آخر «المجمع»، فهي تجميعة من ثمار الشجر تخلط بثمار البحر وحلويات السكر الملونة، والفول السوداني والبندق وغيرها.. جميعها طازجة، فهناك غير بعيد من الدكان في الطلعة المجاورة لبيت «با عامر» تقودك الرائحة إلى المقلي، حيث تشاهد الصاج الكبير منصوبًا في الهواء الطلق لتحميص «المجمع»، كنا نتوجه إلى هناك مباشرة لنحصل عليها وهي ما تزال ساخنة.
رائحة أخرى كان سوق العلوي يعبق بها، روائح البذور والبهارات، حيث كان مقر أشهر العطارين، أهمها ما زال موجودًا اليوم، وهو محل عطارة الشلبي، وقد بقيت فترة طويلة أعتقد بأن كل بائع للعطارة يسمى بهذا الاسم لأنه كان معروفًا ومشهورًا بين أهالي جدة. وغير بعيد محل آخر لا يزال موجودًا لحرفة لم يكتب لها أن تندثر، اشتهر بها السوق وهي صناعة الأحذية والكمرات «الأحزمة» من الجلود.
عين فرج يسر
أمضي قليلاً ثم أنعطف يسارًا لأجد عين فرج يسر محاطة بسياج، بقيت لعقود مطمورة تحت الأرض بنحو 8 أمتار، حتى اكتشفت بجهد من المهندس سامي نوار الذي كان في حينها مديرًا لحماية المنطقة التاريخية «أصبحت مؤخرًا بلدية مستقلة برئاسته اعترافًا بجهوده»، والعين هي بازان لتوزيع المياه التي كانت تجلب من عيون في وادي قوص أو قوز على بعد نحو 15 كيلومترًا عبر قناة داخلية، وقد شُيِّدت هذه المنشأة المائية المتمثلة في الصهريج والقناة في عهد السلطان المملوكي قنصوه الغوري، وقام السلطان العثماني سليم الأول بأعمال إصلاحات لها في عام 933هـ/1517م، ثم طُمرت تلك العين إلى أن قام فرج يسر أحد أثرياء جدة بإعادة بنائها مرة أخرى فيما بعد عام1270 هـ/1853م، فاستمرت حتى عام 1340هـ/1921م.
وتحوي عين فرج يسر صهريجًا وسبعة من العقود التي شُيِّدت فوق أحواض مائية متصلة بقناة مائية، استخدم أحد هذه العقود مجلسًا للمشرف على توزيع المياه في هذه العين.
فرجة العلوي
ربما تقول ما أشبه الليلة بالبارحة حين تسير في العلوي في ليلة من ليالي رمضان مأخوذًا بالبهجة والحياة التي تتقد في جنباته والأصوات المتعالية، كل ينادي على بضاعته، تتلألأ أنواره حتى هزيع متأخر من الليل، فقد كان الناس فيما مضى يعلقون على من يبالغ في إضاءة منزله بقولهم «كأنه فرجة العلوي».
وقبل أن نصل إلى نهاية السوق من جهة باب مكة، نرى إلى يسارنا في الجهة الصاعدة نحو العيدروس، بيت المتبولي الكبير، مطلاً على باحة كبيرة، حيث كانت قهوة العلوي «قهوة رجب»، ويعود بناء هذا البيت إلى أكثر من مئتي عام، ويحتاج، كغيره من المعالم القديمة، إلى عمليات لترميمه وإصلاحه.