الأسود لون مضيء والعهدة على ريشة ناصر التركي
«عرش الضوء»
بالأبيض والأسود
«ضربات الفرشاة هي بداية تكوين كل شيء في الحياة». إنها الحالة التعبيرية التي يراها الفنان التشكيلي ناصر التركي وهو يتحدث على هامش معرضه «عرش الضوء» الذي أقيم في أروقة صالة الفن النقي في الرياض بحضور عربي وعالمي، وبرعاية إعلامية من المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق. في هذه التجربة لا يؤكد هذا الفنان فقط أن مشروعه حالة لا يمكن تصنيفها ضمن الأطر المتعارف عليها في المنطق التشكيلي، لكنه يعيد تفكيك مفهوم ثقافي ارتبط بأدبيات الذهنية العربية الشعبية التي بقيت متمسكة بانعدام وجود حل وسط في مختلف أحكامها
وهي تقول: «يا أبيض يا أسود»!
أثبت ناصر التركي عمليًا وفنيًا أن العبارة السابقة ليست أبدًا بالتطرف الذي تبدو عليه، إذ اكتشف داخلها عوالم كاملة من الألوان، والضوء، والمسارات البصرية والإدراكية الشاسعة. أعاد شرح فلسفة الضوء متعمقًا فيها، ومشتغلاً على استخدامها ككيان يمكن تشكيله وصناعته في أكثر من شكل وداخل أكثر من فكرة، والحقيقة أن تعرية الضوء، حسب أحد النقاد، لم تكن الملمح المدهش الوحيد في هذه التجربة، بل إنها تضمنت كذلك إعادة اكتشاف اللون الأسود بحيث يكون لونًا مبهجًا مضيئًا. وإذا كان باعة الملابس عادة ما ينحازون إلى نصحنا باقتناء هذين اللونين دون غيرهما، بحجة أنهما «سيد الألوان» و«ملك الألوان»، فإن هذا المعرض كان فرصة نادرة لكل ذائقة تحب أن ترتدي نوعًا مترفًا من الفن الذي سيعجبها ويعجب الناس على حد سواء.
النقاد التشكيليون كان لهم حضور مميز في «عرش الضوء»، حيث علق د.حكيم عباس بأن هذه التجربة نفضت الألوان، وأبقت الضوء الأبيض ساطعًا، يلازمه الأسود داخل حالة من التناغم أو رقص الإيماء، الذي يعودان بعده ليشكلا الضفيرة، يجدلانها تارة ويفككانها تارة أخرى، يوحيان للأنثى، ثم ينسابان في بحير الحيرة بين العدم والكينونة. وقد شبه حكيم لوحات التركي بالأبيات الشعرية التي لها تجليات فنية متنوعة داخل نص واحد، مستعرضًا في هذا الصدد معلقة امرئ القيس، في حين قال الناقد التشكيلي السيد الجزايرلي قال إن المتلقي سيلاحظ في هذا المعرض أن الفنان يحاول أن يعطيه انطباعًا إيجابيًا حول خبرته الفنية في توظيف النور مقابل الظلام، وهي الثنائية التي اشتغل عليها بكثافة في معرضه السابق، وأضاف: «التجربة هنا جديدة تسعى إلى توصيل الفكرة دون إسراف في الألوان أو إسهاب في تفاصيل التشخيص، مع وجود التأثير الرمزي، والبعد السريالي، وحركة الجسد».
علق الفنان التشكيلي أحمد السلامة بقوله: «هذه المعارض تمثل لنا قيمة كبيرة كمشتغلين في هذا المجال، ونحن نسعد بحضورها. أما «عرش الضوء»، فهو تجربة جيدة للفنان ناصر، وقد زادها جمالاً عرضها في صالة الفن النقي. هذه الفعاليات تلعب دورًا كبيرًا في دعم حركة الفن التشكيلي السعودي». وأضاف: «ناصر ابتكر رؤية فنية جديدة تناولها النقاد، فهو يبحث عن شيء معين متمثل في الضوء، وقد وصل إليه من خلال تكنيك جديد على مستوى الفرشاة واللون يصنع داخل الأبيض والأسود مجموعة من الألوان».
المصور عبداللطيف العبيداء قال: «إن المعرض كان فعلاً عرشًا للضوء، وكان فيه كثير من الجمال والتضاد والتضارب بين الأبيض والأسود بأجمل صوره، طريقة العرض كانت جميلة، ونحن نفخر بصالة مثل الفن النقي، فهي جميلة ومؤهلة، ونتمنى أن نرى فيها كثيرًا من المعارض، عرض مبهر وحضور مميز للوحات وعرض الشرائح».
وقال: «إنهم كمصورين فوتوغرافيين يتفقون مع التشكيليين في موضوع التكوين، وفي الحرص على إخراج العمل ضمن أجمل صورة ممكنة».
وأضاف: «في الفن التشكيلي يوجد التكوين مسبقًا في عقل الفنان، فيقدمه بالطريقة التي يراها، وقد يتقاطع هذا مع التصوير الضوئي كما حدث في هذا المعرض، حيث تتشابه بعض اللوحات هنا مع الصور الفوتوغرافية للدخان مثلاً، وإجمالاً نتمنى أن نرى مزيدًا من المعارض المختصة في الفنون البصرية».
تحدث إلينا الملحق الثقافي الفرنسي دانيال أوليفيي الذي كان حاضرًا بشكل فاعل يثبت ما يمتلكه من ذائقة فنية مبديًا سعادته بأن يرى معارض بهذا المستوى في الرياض، وشدد على أهمية هذه الفعاليات الفنية في رفع مستوى ثقافة الشعوب والارتقاء بمداركها وإبداعها.
أشاد أوليفيي بصالة «الفن النقي»، وعدها المساحة الأنسب لعرض مختلف أنواع الفنون في الرياض، مطالبًا بالمزيد من استغلالها، وقال: «إن ما تحفل به من إمكانات يمكن رؤيته في باريس، أو نيويورك، أو في أي مكان بالعالم».
عبر الملحق الفرنسي عن إعجابه بمعرض الفنان ناصر، وبعدد من التجارب الفنية في المملكة التي أكدت مستوى التميز الذي وصلت إليه حركة التشكيل السعودية، وقال: «إن إقامة الكثير من المعارض تعد مظهرًا مهمًا في أي بلد، فالشعوب بحاجة دائمة إلى تذوق الفن».
في حين علقت الكاتبة والإعلامية نوال الجبر عن انطباعها برؤية أدبية لافتة تقول فيها: «أتيت إلى عوالم من الدهشة وجدتها بين لوحات الفنان التشكيلي ناصر التركي منذ أن هطلت رسائل ذات اتجاهين من عرش الضوء، لنؤمن تمامًا بأن السفر إلى النور هو المحال النوراني. ثمة شعور يؤجج داخلي الرغبة في أن ألتصق أكثر بالنور، وأن التواءات رأسي مع من هم حولي وميلانه ينجذب إلى رقص الريشة على مساحة حرة تلاعبنا بها خيوط الضياء، وتحول مسرح اللون الذي يتماهى بعدسات أعيننا مهما كانت ألوانها من بني، ورمادي، وأزرق، وصولاً إلى الأسود ونقوش عبثية يفقد بها خيالنا قدرته على التوازن، فيتطاير كمجرات يشعر الكون نحوها بالعجز عن أن يقبضها بيده، فتقبض البحر من طرف سجادته حتى يزرعه جسدًا لأنثى قوامها الفراغ كأنه يخرج من عينيه أنثاه ويخبئها في جيوب الليل. في كل مرة كنت أقف أمام اللوحة ثمة واجهة زجاجية تحول بيني وبين اللوحات التي تفجرت واقعية في معرضه هذا، وغمرنا النور من كل الزوايا، فاغتسلنا بالضوء».
قال الفنان التشكيلي عبدالمحسن الطوالة: «إن ناصر التركي له أسلوب وبصمة مميزة ونهج شبه جديد».
مضيفًا: «في اعتقادي أنه تابع للتجريدية، وأسلوبه مميز يأخذك إلى عوالم جميلة. لقد جنح بشكل جميل حتى عن التجريدية نفسها، هي ليست تلك الرمزية المغرقة، كما أنها ليست الوضوح المباشر. لوحاته فلسفة تشكيلية أدبية يمكن أخذها على أكثر من مضمون، لقد تميز في هذه التجربة وما قبلها من خلال هذا النهج الذي شكَّل فيه مدرسة خاصة وغير تقليدية».
تحدث الفنان ناصر التركي عن هذا الحدث قائلاً: «معرض «عرش الضوء» المقام، حاليًا، يصاحبه معرض مصاحب هو «السفر إلى النور» الذي عرضته في جدة 2009، وهي تجربة تظهر فيها روح لونية بشكل واضح، بعدها دخلت في تدريج الأبيض والأسود عبر 28 لوحة طرحت فيها أشياء أتمنى أن أكون وصلت فيها إلى الفكرة التي أريد التعبير عنها. ثمة مساحة قد تكون غائبة بين الظلام والنور، قريبة من تمايز الخيط الأبيض من الخيط الأسود في تعاملات الإنسان مع نفسه، والانتقال إلى مكان جميل ونقي وطاهر في علاقته بذاته وبالآخرين».
رفض التركي أن يقتصر النظر نحو مشروعه على حدود معينة، مستبعدًا أن يكون لديه تركيز على هدف فني محدد، وقال إنه يرى مشواره الفني قريبًا من فكرة التحليق الحر بين السماء والأرض، التي تتضمن حالات مختلفة من الحركة والتنقل والراحة، مؤكدًا أن هدفه غير منتهٍ، وليس لديه شكل معين للطموح.
وفي تعليقه على وجود ارتباط بين أعماله وبين الماء قال: «الماء مثل أي حركة حرة، أنا مرتبط فيها كالهواء والسحاب والسماء، مشاعر الإنسان عمومًا هي موجات متصارعة ومتقاربة بين الفرح، والحزن، والخوف، والرغبة. أنا أعيش ضمن هذه الدائرة وأشتغل في هذا الإطار الذي يشمل الكون والإنسان والحياة».
علل التركي تسمية المعرض برغبته في أن يكون كل إنسان داخل في دائرة الضوء التي تشمل السلام الذاتي، والنجاح، والرجوع إلى أصله الكامن في روح الطفولة والبراءة والنقاء.
وحول تشابه بعض خطوط لوحاته مع الخط العربي قال إن هذا غير مقصود، وأرجعه إلى التقاطع بين حرية الرسم والحركة المرنة للحرف، وأعد هذا المعرض محطة استراحة للتوقف قليلاً، نافيًا وجود تصور واضح لما هو آتٍ على صعيد التجربة. وأضاف: «الفن حالة إنسانية. يعيش الحياة متنقلاً بشكل تلقائي عشوائي أو بشكل مرتب. لا أستطيع أن أحدد شكل المرحلة المقبلة».
علقت مستضيفة المعرض الأميرة أضواء بنت يزيد بن عبدالله بن عبدالرحمن بدورها: إن تجربة «عرش الضوء» تقدم للجمهور فنانًا سعوديًا مميزًا له خط وتوجه متميز بأسلوبه ومتفرد فيه.
وأضافت: «لقد شدتني هذه التجربة، فبدأنا نتابع تطور هذا المشروع الفني قبل أن ندخل مرحلة التنسيق مع الفنان لهذا المعرض، خصوصًا أنه يناسب تمامًا المبدأ الذي نعمل عليه، وهو البحث، دائمًا، عن الفكرة الجديدة. لقد استخدم في هذا المعرض الأبيض والأسود فقط، وهما لونان حاسمان، لكنه كسب هذا الرهان».
وقالت: «إن اللون الأسود هنا لم يكن قاتمًا، دائمًا، لكنه كان يشع، في بعض الأحيان، النور ويبعث على السعادة، بل إنه حين يمتزج بالأبيض، فهما يعطيان انطباعًا مليئًا بالتفاؤل والحياة».
ورأت الأميرة أضواء أن الإحساس العالي في اللوحات يأتي في مقدمة المكونات الجاذبة للجمهور، والمتلقين في معرض «عرش الضوء»، وأن الاهتمام بالفن التشكيلي قد ازداد بشكل ملحوظ في الفترة الأخيرة معلقة: «أنا كمتابعة للساحة أشعر بوجود فرق كبير عما كان عليه الأمر من حيث اهتمام الناس بالفنون والحضور إلى المعارض. أصبحنا نرى عدد زوار أكبر، كما أن الحوار حول الأعمال صار أعمق، كثيرون يحبون المجيء، ومعرفة سيرة الفنان، والالتقاء به، ومناقشته في فلسفته وأسلوبه، وقالت: «إن الثقافة التشكيلية ما زالت في بدايتها، وهو ما يحتم على المختصين والمشتغلين عليها أن يقوموا بدور أكبر في التواصل مع المتلقي، ليستوعب طبيعة هذا الفن وخصوصيته. خلال سنوات فقط سيكون الجميع قد اكتسب ثقافة التلقي والإدراك اللازم ولن يصبح بحاجة إلى الشرح لكي يعرف».
أكدت الأميرة أضواء أن عبارة «الفن النقي» التي تحمل الصالة اسمها تعبر عن رغبة القائمين عليها في تقديم الفن المتميز الجيد ذي الشخصية الجديدة والمستقلة، مشيرة إلى أن هذا التوجه لا يعترف بالتجارب التي تعد نسخًا مكررة لتجارب أخرى، ولكنه يحرص على رعاية الفن الذي يقدم نفسه فقط، ويمنحه كل الإمكانات للتعبير عن إبداعه أمام متذوقيه وعشاقه.