June2010Banner

 


فدك
التاريخ وسحر الطبيعة



تنتشي روحك بعبق التاريخ، وتحيط بك أطياف من الماضي، تغازل مخيلتك وتسلب لبك، كلما وطأت قدماك حرة الحائط أو فدك التاريخية، وليس ثمة ما يسحر الألباب مثل جبل شاهق توشَّح بالبياض ينبثق من وسط أمواج بحر أسود.

المنطقة تبهرك حقًا بتضاريسها الغريبة المتميزة، فهي من عجائب الخلق بجبالها وغرابيبها السود والحمر، والمساحات الهائلة المغطاة بأكوام الصهارة السوداء و«الحمم المتحجرة»، تحيط بك من كل جانب بملامح جمالية شديدة الغرابة، لا تنتهي عند حد، تتخللها الأودية كمفارق شعر حسناء، يلوح في وسطها الجبل الأبيض كدرة عظيمة تزينت بها تلك الحسناء، تتجلى بكل شبر منها عظمة الخالق، هذا التنوع البيئي الذي تزخر به منطقة الحائط، يجعلها بحق تبدو مثالية لعشاق الرحلات الاستكشافية والجيولوجية.
جذور تاريخية عميقة
للحائط أو ما يسمى فَدَك بفتح الفاء، وهو اسمها القديم، أهمية تاريخية كبيرة، إذ تعود إلى فدك بن حام بن نوح كما يقال. ويقال، أيضًا، إنها تنسب لفدك من العمالقة. ويقول ياقوت الحموي في معجمه: إنها ضمن المدن التي احتلها ملك بابل عام 566 قبل الميلاد وأطلق عليها مدينة الحصون والأسوار لتميزها بسور عظيم أحاط بها وصل طوله إلى 7 كيلومترات. وقد يكون ذلك سبب تسميتها بالحائط في العصور المتأخرة. ومما يرسخ هذا المفهوم وجود بقايا للسور فضلاً عن بقايا لأطلال وقلاع وحصون حجرية في أرجاء المنطقة. كما تتميز فدك بوجود كتابات على سفوح جبالها بالخط العربي المسند وتصاوير ورسوم لحيوانات انقرضت ولم يعد لها وجود في المنطقة، تدل بمجملها على تعاقب الحضارات والأمم وترك بصماتها عبر تاريخها الموغل في القدم. وقد كانت فدك قاعدة مهمة لقبيلتي غطفان وعبس، ويظهر ذلك جليًا في أشعارهم وقصائدهم التي تمجد، عادة، وقائعهم وأيامهم، يقول عنترة بن شداد العبسي:
طال الثواء على رسوم المنزل
بين المكيك وبين ذات الحرامل
والمكيك جبل في فدك، وذات الحرامل وادٍ صغير في فدك، أيضًا، لا يزال يحمل الاسم نفسه.

الموقع والتضاريس
تمتد الحائط ومن ضمنها فدك من جبل وسمة الفرس شمالاً حتى حدود المدينة المنورة جنوبًا، ومن الجبل الأبيض غربًا إلى جبل العلم شرقًا، وتتبع منطقة حائل، وتقع على مسافة 280كم جنوب غرب مدينة حائل، وتقدر مساحتها الإجمالية بنحو 24000كم2، وبتعداد سكاني يناهز الثمانين ألفًا، يعملون بالزراعة والرعي، فضلاً عن الأعمال الحكومية والإدارية، والغالبية العظمى منهم قد استقرت في الحائط المدينة، وهي مدينة صغيرة أهلها كرماء وطيبو المعشر. والحائط بدأت تأخذ بأسباب التقدم والمدنية الحديثة أسوة ببقية مدن المملكة العربية السعودية، وقد ارتبط بها إداريًا أكثر من 120 قرية وهجرة، وترتفع المنطقة عن سطح البحر بأكثر من 1300م، ما يجعل أجواءها تميل إلى الاعتدال صيفًا وإلى البرودة الشديدة شتاء، وتشقها أودية عدة تشكل بمجموعها روافد لوادي الرمة الشهير. وأهم معالمها الطبيعية الجبل الأبيض الذي يشدك لونه المتميز وسط بحر لا يكاد ينتهي من ركام صخور الحمم البركانية السوداء، وجبل القدر الأسود، وجبال أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها مثل القور والعاقر والصنفرة والبيضاء. ويقطع هذا الصمت الأسود كثبان رملية متعددة الألوان بعضها صفراء محمرة أشبه برمال النفود الكبرى، وأخرى داكنة تتكون أصلاً من فتات الصخور البركانية وحجارة البوزلان، والذي يُعد من المكونات الرئيسة لمادة الإسمنت.

مغامرة صعود جبل القدر
لقد استغرقنا صعود جبل القدر العظيم والذي يرتفع لأكثر من 2000م فوق سطح البحر زهاء الساعة والنصف، واضطررنا إلى السير على صخور اللآبة شديدة الوعورة، وقد تشكلت تلك الصخور من بركان الجبل، وتدفقت الحمم على جوانبه واستمرت بالجريان حتى غطت مساحات هائلة حول الجبل، وتحجرت أمواجها بأشكال وتكوينات يعجز اللسان عن وصفها، فمن أكداس الأنابيب إلى أكوام من الدوائر والحلقات فائقة الغرابة إلى كهوف ومغارات وأنفاق مهولة، وكأنها تنتمي إلى عوالم أخرى وتمتد إلى مئات الأمتار تنتظر من يكتشفها ويوثق مواقعها لهواة المغامرة وعلماء الجيولوجيا. وعند وصولنا لقمة الجبل هالنا منظر فوهته البركانية المستديرة ربما بقطر يتعدى المئة متر، وعمقها السحيق الذي يتجاوز الثمانين مترًا. ويقال إن هذا البركان قد ثار في القرن السابع الهجري واستمر في نشاطه شهورًا عدة ينفث خلالها الحمم والرماد البركاني. كما أن اللآبة التي حوله والصخور البركانية تبدو حديثة نسبيًا حسب رأي أحد الجيولوجيين من أهل المنطقة.

الجبل الأبيض
ومن أمتع ما يُرى في منطقة الحائط هو، بلا شك، الجبل الأبيض الأسطوري، هذا الجبل الذي يرتفع لأكثر من 2200م فوق سطح البحر، ويعد سقف المنطقة، فضلاً عن تفرده بلونه الأبيض الوضاء نسبيًا مقارنة بما حوله من سواد مدلهم، وهو سبب تسميته بهذا الاسم. وكان صعوده بحق مجازفة محفوفة بالمخاطر كون صخوره البركانية من النوع الهش شديد الانحدار. بيد أننا لم نستطع مقاومة حب الاستطلاع وشهوة المغامرة وتجشمنا الصعود إلى قمته، وكان ذلك في صباح اليوم التالي، واستغرق الصعود زهاء ساعتين من الجهد المضني، وعند القمة كادت أنفاسنا تتوقف من الإعياء ومن الرياح الباردة، فضلاً عن تلك المناظر التي تتعثر الكلمات عن وصف جمالها، جبال سود وحمر وبيض، وبحيرات وأنهار من الحمم المتحجرة، وكثبان رملية تناثرت عليها الصخور البركانية هنا وهناك.. وكأنك في أرض كوكب خارج المجموعة الشمسية.