June2010Banner

 


الأمن الفـكـري

في التكفير تعَدٍّ على حقوق الناس من المسلمين، وإفساد للقلوب، ونشر للأكاذيب.

بقلم: أ.د.عبدالكريم بن صنيتان العمري
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة

يؤكد التشريع الإسلامي أهمية إعداد الفرد المؤمن الصالح العابد، الملتزم بحقوق الآخرين، المحترم لإخوانه المسلمين، النائي بنفسه عن أن يكون من المعتدين، المبتعد عن سبل الضلالة وطرق المنحرفين، المحسن الظن بإخوانه المؤمنين، فلا يقحم نفسه في خيالات تصم غيره بالنقائص، أو تنسب إليهم التهم والشُّبه والدَّسائس، بل يبتعد عن ذلك, لأن الله، تعالى، أمره باجتنابه, كما قال الحق، جلَّ وعز: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُــلَ لَحْمَ أَخِيــهِ مَيْتــًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَهَ إِنَّ اللَّهَ تَــوَّابٌ رَحِيـم{ «الحجرات: 12».
إذًا فالمسلم يأخذ الناس بالظاهر من أعمالهم، فلا يُصدر حكمًا في قول أو حادثة على فرد من الأفراد دون أن يتثبت في حكمه، أو يتروَّى في منطقه، فالمبدأ الصحيح في الإسلام النظر إلى الظاهر، والله، تعالى، يتولى السرائر، فهو المطلع على الخفايا، العليم بالبواطن، فلا يُحَمِّلُ المسلم نفسه ما لا تحتمل من الآثام والخطايا، بل يتحرَّز من كل كلمة ينطقها أو عبارة يتفوه بها، قال تعالى: }وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا{ «الإسراء: 36».
وعلى ضوء هذه الآية يكون سلوكه، فلا يتكلم إلا بما يعلم، ولا يحكم إلا بيقين، ويدع سرائر الناس لخالقهم.
قال عمر، رضي الله عنه: إن ناسًا كانوا يأخذون بالوحي في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه على سريرته، ومن أظهر لنا شرًا لم نأمنه ولم نصدِّقه، وإن قال: إن سريرته حسنة.
إن المسلم وهو يستشعر هذا المنهج الإسلامي الرصين في إحسان الظن بالغير، والبعد عن مواطن التهم، والتحفظ في الأقوال والأحكام، ليعجب أشد العجب ممن طاشت عقولهم، وزاغت أفهامهم، ورغبت أنفسهم عن سلوك هذا المنهج الحق، فأطلقوا لألسنتهم العنان في الحكم بالكفر والرمي بالفسق، وإخراجهم عن دائرة الإسلام، اعتمادًا على الأقاويل والشائعات, والشكوك، والظنون، والأخبار الكاذبة، والمصادر الواهية.
وقد حذر الله، تعالى، من سوء الظن بالمسلمين، فقال سبحانه: }يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا منَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُــلَ لَحْمَ أَخِيــهِ مَيْتــًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَــوَّابٌ رَحِيـم{ «الحجرات: 12».
لا شك أن نسبة المسلم إلى الكفر من أعظم الظن السيئ، فلا يجوز لمسلم أن يطلق لنفسه التصورات السيئة بأخيه المسلم، فيحكم عليه بالكفر والخروج عن الإسلام، وكثير من طلاب العلم قد وضعوا حواجز بينهم وبين إخوانهم, تمنع استفادة بعضهم من بعض، بحجة أنهم أصحاب بدع، أو أهل معاصٍ، ولو تثبتوا لوجدوا أن كثيرًا من تلك الحواجز سببها الظن السيئ، أو التقصير منهم في مناقشتهم والتثبت من حالهم. قال عمر، رضي الله عنه: «ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً».
ثم إن في ذلك مخالفة للنصوص الواردة بصيانة عرض المسلم، وعدم التعرض له بالسباب والشتم، وسوء الظن، قال، عليه الصلاة والسلام: «إن الله تبارك وتعالى قد حرَّم عليكم دماءكم, وأموالكم، وأعراضكم, كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»، رواه البخاري.
إن الحكم بالتكفير أو التفسيق، ليس إلى أحد من الناس في هذا الجانب, حيث سرت في أوساط فئة من الشباب الحكم بكفر فلان، أو بأنه فاسق، أو علماني، أو نحو ذلك، وفي هذا خطر شديد تجرعت الأمة آلامه وغصصه، وعاشت محنته وشروره، حيث أخذ هؤلاء بأصول بعض الفِرَق الضالة، التي خرجت على الأمة، وقد حذر المصطفى، عليه الصلاة والسلام، من أمثال هؤلاء، وبيَّن أوصافهم، فعن علي، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «سيخرج قوم في آخر الزمان،أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة» رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام البخاري، رحمه الله: «كان ابن عمر، رضي الله عنهما، يراهم شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين».
والمجازفة في تكفير الآخرين, إنما تنبع من ضحالة العلم, وقلة التفقه في الدين، والبعد عن النظر في القواعد الشرعية, التي هي أساس الدعوة الإسلامية الصحيحة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: «ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة». وقال أيضًا: «إني من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنْسَبَ معَيَّنٌ إلى تكفير, وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي مَنْ خالفها كان كافرًا تارة, وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله، تعالى، قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية, والقولية، والمسائل العملية...». انتهى كلامه. فالمسلم وقَّاف عند حدود الله، تعالى, ينأى بنفسه عن الوقوع في مثل هذه المزالق الخطيرة، فلا يَزَل لسانه بتكفير أخيه المسلم، بل يظن به أحسن الظن، فإن مثل تلك المسالك تؤدي إلى التشتت، وفساد ذات البين، والتفرق والتحزب مطمع للأعداء، يفرحون بانتشاره في المجتمع المسلم، وفي التكفير تعَدٍّ على حقوق الناس من المسلمين، وإفساد للقلوب، ونشر للأكاذيب, وترويج للشائعات الباطلة، وفتح لأبواب الشر, وإثارة للفتن، وإيذاء للمؤمنين، وفي ذلك إثم كبير, وضرر عظيم، قال تعالى: }وَالََّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا{ «الأحزاب: 58».