من هو تاكيشي سوزوكي
«الحاج محمد صالح»؟
ولد تاكيشي سوزوكي في إبريل 1904 في «عصر ميجي» في محافظة كناغاو «kanagawa» القريبة من طوكيو، وكان آخر العنقود في أسرة أنجبت أربعة أطفال، كان من بين إخوته من نبغ في فن الرسم، بينما هناك من عمل بوزارة النقل والمواصلات، ويقال إن سوزوكي لم يواصل تعليمه في المدرسة الثانوية، لأنهم كانوا يحثونه دائمًا على التفوق مثل إخوته ويقارنون بينه وبينهم، و انقطعت أخبار سوزوكي ثم ظهر بعد فترة، كان يعمل في شركة كانيو كوهاتسو «kanyokohatsu» التجارية، وبدأ يسافر إلى جزيرة نيوغويانا «New Guinea» شرق إندونيسيا.
يذكر ابن أخيه الأكبر ويدعى «كازوهيكو» أنه حين كان تلميذًا صغيرًا في المدرسة الابتدائية كان يشاهد عمه «تاكيشي سوزوكي» وهو يحمل حقيبة ضخمة مملوءة بسهام أفريقية، كتلك التي تستخدم في الصيد في أدغال أفريقيا، إضافة إلى طيور محنطة.
كانت أسرة تاكيشي تعتقد أن ولدها «فشل» في حياته ولم يعد لديها أو أقاربه أي أمل في إعادته إلى الحياة بالأسلوب الذي تريده العائلة، لكنهم بعد أن شاهدوه يعيش حياته بطريقة سوية وبعد أن رأوا التغيير الملحوظ الذي طرأ على شخصيته غيَّروا رأيهم فيه.
كانت وجهة نظرهم النهائية أن «تاكيشي سوزوكي» شاب عجيب، لكنه يسلك سلوكًا طيبًا في حياته، ويصرف أموره بشكل جيد، والتغيير الذي طرأ على حياته كان تغييرًا إلى الأحسن، خصوصًا بعد أن سافر تاكيشي «الحاج محمد صالح» لأداء مناسك الحج.
ياباني في مكة ومكانتها الأدبية
تعد هذه الرحلة «ياباني في مكة» أو «الحج إلى مكة» نموذجًا متكاملاً للنمط الأدبي المعروف بـ«أدب الرحلة»، وهو النمط الذي له علاقة بجميع العلوم الاجتماعية تقريبًا، يستفيد منه كتاب السير وعلماء الجغرافيا والاجتماع وعلماء اللغة وغيرهم استفادة كبيرة.
رسم المؤلف في كتابه صورة الملك عبدالعزيز الذي شاهده عن قرب، والتقاه، وقد خصَّه الملك دون غيره من الحجاج بأطول وقت ممكن، بل أوقفه بجانبه طوال مدة مصافحته لوفود العالم الإسلامي التي قدمت للسلام عليه في الحج، فرسم المؤلف للملك عبدالعزيز صورة دقيقة الملامح جميلة القسمات، خطها بأوضح العبارات دون رياء أو مجاملة.
الرحيل من كوبيه
يبدأ المؤلف كتابه بوصف الرحيل من ميناء كوبيه الياباني وما تعرض له صديقه السيد تشان ممثل مسلمي منشوريا بعد أن رفض القنصل المصري إعطاءه تأشيرة دخول إلى مصر في طريقه للحج بمكة المكرمة بحجة عدم اعتراف مصر بمنشوريا كدولة مستقلة. وحلت المشكلة بإعطاء تشان تأشيرة تصريح مرور تسمح له بالتنقل عبر موانئ المستعمرات البريطانية من الوزير المفوض في القنصلية البريطانية.
يذكر الكاتب أنه وبعد 30 يومًا من مغادرة كوبيه وصلا إلى ميناء بورسعيد ولم يتحدثا مع قبطان السفينة عن مشكلة التأشيرة، واحتفظ هو وصديقه بهذا السر ولم يطلعا أحدًا على هذه المشكلة.
زمزم تحملنا إلى جدة
حملت السفينة «زمزم» الحجاج المصريين وغيرهم من حجاج أفريقيا، وكان من ضمن الحجاج القادمين من آسيا، سوزوكي وصديقه المنشوري وعدد من الصينيين. يصف سوزوكي مشاعره والسفينة تطلق صفارة المغادرة: حان الآن وقت الذهاب لتحقق الأماني، أماني ياباني مسلم، فها نحن نتجه إلى المكان الذي شهد مولد الرسول، صلى الله عليه وسلم، فهل هناك سعادة أكثر مما نحن فيه الآن؟ ويمضي سوزوكي في وصف مغادرة السفينة: «كانت الشمس تميل إلى الغروب، فتنعكس أشعتها على الجبال التي تظهر صورتها الحمراء على مياه البحر، ولهذا أطلقوا عليه اسم البحر الأحمر. انتهت مشاعر الإثارة التي تملكتني، خصوصًا بعد أن تحركت السفينة وشعرت كأنني فقدت طاقتي كلها، وتلاشت هذه المشاعر كليًا قبيل الغروب. كان الحجاج المتلهفون إلى الذهاب للحج يتوجهون إلى الله بالدعاء، كان بعضهم يرتل القرآن الكريم، وكان بعضهم يصلي، وبدا الجميع في غاية التقوى والورع، كانت عقولنا جميعًا تفكر في شيء واحد وتركز على شيء واحد وهو أننا ذاهبون إلى الأماكن المقدسة.
وأبحرت سفينة الحج متجهة جنوبًا تحمل أناسًا تضمهم مشاعر قوية تجاه الدين والعقيدة، كان الإرهاق الشديد قد أصابنا وأخذ منا التعب مأخذه منذ الصباح، ولهذا دخلنا للراحة لكننا لم نتمكن من النوم رغم ما بنا من تعب».
طريق الحج
يصف سوزوكي الطريق من جدة بعد خروجه من البوابة بأنه عبارة عن «مدقات» نتجت عن سير السيارات والإنسان والدواب ولا توجد فيه علامات سوى إطارات السيارات الموضوعة أحيانًا لتحدد مسار الطريق ليس إلا.
ويضيف: «وصلنا بعد فترة إلى بحرة التي تقع في منتصف الطريق بين جدة ومكة، وهناك حوالي عشرين استراحة يطلقون عليها اسم بيت أو منزل، وهي عبارة عن أحجار مرصوصة إلى بعضها مع رمال، كانت هذه الاستراحات مصفوفة على جانبي الطريق، وكانت هناك مظلات تقي من أشعة الشمس، وهنا يباع الشاي والخبز والبيض المسلوق والبطيخ والبرتقال».
الوصول إلى مكة
تظل بوابة مكة في ذاكرة سوزوكي نقطة مركزية في رحلة الحج، ولا يمكن نسيانها بسهولة يقول: «انفتحت البوابة على مصراعيها، واقترب جنديان كل منهما يحمل بندقيته، فحصا كل الأوراق ثم رغبا في الاطلاع على شهادة القاضي في جدة التي تفيد بأننا مسلمون وكذا تصريح الدخول إلى مكة، ومن ثمَّ حصلنا على تصريح بالمرور من البوابة». وينقل سوزوكي صورًا رائعة لوجوده في مكة من مظاهر الاحترام للحجاج بشكل عام، وما لقيه هو شخصيًا وممثل مسلمي منشوريا بشكل خاص من حفاوة واستقبال، وكيف أن الشرطة أفسحت لهما الطريق وسط الزحام، وانطلق معهما أحد الجنود، بينما مضى صاحب البيت «الفندق» من ناحية اليمين، وكان الناس يصفقون لهما.
ووسط التلبية وجموع الحجاج في ثيابهم البيضاء يتدفقون على الكعبة المشرفة، توجَّه «سوزوكي» إلى مكان الغسل والوضوء ووصفه بـقوله: «كان المكان مشيدًا بالخرسانة ومساحته حوالي ثلاث مئة وثلاثة أمتار مربعة، وكان هناك مصباح على الحائط وبرميل ضخم مملوء بالماء».
الوقوف على جبل عرفات
«أدينا واجبات كل يوم على أكمل وجه، وكنت سعيدًا شاكرًا لله الذي أسبغ عليَّ رحمته، وحفظ لي صحتي وقدرتي على القيام بالواجبات الصعبة، الواجب تلو آخر، فلم أشكُ ولم أستسلم للتعب أبدًا.
وفي اليوم السابع من شهر ذي الحجة كان بعض الناس يريدون الصعود إلى عرفات على ظهور الجمال، تحركت الجمال التي كانت تحمل الأمتعة تتبعها جمال وضع على كل منها «شقدفًا» حيث يجلس راكبان. كانت مسألة ركوب الجمال فيها خطورة كبيرة، إذ يضعون على رقبة الجمل شعبًا أشبه بالسلم يصعد عليه من يريد الركوب ويثبت الجمل للحظات ليتمكن الراكب من أن يمتطي ظهره، لكن الجمل يفقد صبره أحيانًا فيهز رقبته فيطير الحاج في الهواء، وإذا نجح أول راكب في الصعود على ظهر الجمل فعليه أن ينتظر حتى يصعد زميله، وعليه أن يقف حافظًا توازنه على ظهر البعير». ويصف سوزوكي المشهد من عرفات قائلاً: «عرفات مكان له أهمية في الحج، فبعد أن ارتفعت الشمس واشتدت حرارتها أكثر فأكثر وظهر الناس الذين صعدوا قمم المرتفعات على جبل عرفات كالنمل الأبيض، وكنا نحن، أيضًا، ضمن هذا النمل، حاولنا أن نصعد جبل الرحمة وسط هذا الزحام الشديد، ففي أعلى قمة جبل الرحمة يوجد المكان الذي وقف فيه محمد، صلى الله عليه وسلم، ليلقي خطبة الوداع، ومن أعلى جبل الرحمة كنت أشاهد الخيام المترامية أمامي، إنه منظر غير معقول، لا يمكن أن تصدقه عيناي، ماذا أقول؟ وكيف أصف ما أرى؟ «أزهار بيضاء في حقل واسع».
الملك عبدالعزيز في عرفات
«شاهدت حرس الملك عبدالعزيز في زي الإحرام فوق جمال بيضاء، تجمعوا في الجانب الشرقي من عرفات، كان شعر رؤوسهم الطويل يتحرك في الهواء بفعل حركتهم فوق الجمال، وكان الملك عبدالعزيز في مقدمتهم متوجهًا إلى المسجد للصلاة، حيث سيلقي الإمام خطبة عرفات، تمكنت من مشاهدة العلم السعودي بلونه الأخضر وقد رسم عليه بخيوط منسوجة سيفان. بدأت الخطبة واستمرت لفترة طويلة، أحسبها ثلاث ساعات ونصف الساعة، ومن وقت العصر إلى المغرب يجب أن يخرج الحجاج جميعًا من خيامهم للدعاء. قبل غروب الشمس بالضبط بدأت جماعة من الجنود السعوديين التحرك. الآن انتهينا من الوقوف بعرفة، كنت أخاف الموت، كان الخوف يملأ قلبي فعلاً، فكم من الناس ماتوا بجواري خلال ثلاث ساعات ونصف الساعة».
لقد وصف الحاج محمد صالح «سوزوكي» تفاصيل الحج وأداء المشاعر في ذلك الزمان بدقة وبلغة أدبية صافية كأنك تشاهد التفاصيل، كما أفرد مساحة كبيرة لمقابلة الملك عبدالعزيز، رحمه الله، يقول:
«حين صافحته انهمرت الدموع من عيني، لم أتمالك نفسي، لم أستطع أن أدقق النظر في وجه الملك، فقد غطت الدموع وجهي. أمسك الملك يدي لفترة، كل ما أحسست به في أعماقي ومن داخل قلبي هو عينا الملك ودموعي ومصافحته لي. لحظات شكلَّت خليطًا من المشاعر التي لا يمكن أن أصفها، ويمكن فقط للآسيويين فهمها، لحظات مليئة بالانفعالات المتداخلة. سحب الملك يده بهدوء وأمر الحارس الذي يقف بجواره بأن يبتعد قليلاً، وأوقفنا بجواره. من هذا المكان وعلى هذا الوضع كنا نشاهد الضيوف الذين قدموا للسلام على الملك. كان هذا ترحيبًا لم نتوقعه، وشرفًا لم نفكر في الحصول عليه، وهدية لم نكن نحلم بها على الإطلاق».
من جدة الى كوبيه
بعد أن أدى الحاج محمد صالح «سوزوكي» مناسك الحج رجع إلى جدة وأسرع للقنصل المصري للحصول على تأشيرة دخول الأراضي المقدسة، وحصل عليها، ومن ثمَّ غادر بالسفينة زمزم إلى السويس، ومنها إلى كوبيه.