فرسان جزائر الحريد
والطيور المهاجرة
للجزر حكايات وأحلام تداعب خيال الإنسان ومغامراته، وتكون مسرحًا لقصصه الأدبية وملاحمه الأسطورية ورؤاه وأحلامه، وأمانيه عبر تاريخه الطويل.
من خلال هذه المعطيات نصل إلى حقيقة مفادها أن «أرخبيل جزر فرسان» الواقع في جنوب شرق البحر الأحمر وفي جنوب غرب المملكة العربية السعودية، والبالغ عدد جزره 262 جزيرة يشكل لبلادنا ثروة جزرية كبيرة، سواء في الجانب السياحي، أو التجاري، أو العسكري، وأهمها ثلاث جزر هي: جزيرة فرسان، وجزيرة السجيد، وجزيرة قُماح. أما بقية الجزر فهي خالية من السكان، إلا من بعض صيادي الأسماك الذين يقيمون في بعضها أيامًا قليلة حسب مقتضيات الحاجة.
وما تجدر الإشارة إليه أن مجموعة جزر فرسان تعد أكبر تجمع جزري في الجنوب الشرقي للبحر الأحمر، وأكبر مجموعة جزرية في الجنوب الغربي لوطننا المملكة العربية السعودية، وهي إداريًّا تابعة لمنطقة جازان.. ولقد اصطبغت حياة أبناء هذه الجزر بطابع البحر وجمالياته، وبشاعريته ومعاناته. ولأن هذا البحر في الأزمنة الماضية قد شكل حاجزًا طبيعيًّا بين أهلها وبين الآخرين فإن حياة سكان هذه الجزر قد تفردت طبيعة حياتهم بطابع خاص يتمثل في عاداتهم وتقاليدهم، وأسلوب معيشتهم المعتمد على منتجات البحر، وبخاصة اللؤلؤ الذي أخذتهم تجارته إلى بلدان بعيدة، في بلاد الشرق، كالهند التي كانت سوقًا رائجة لتجارة اللآلئ، والتي أكسبت بعض سكان هذه الجزر شيئًا من الثراء، وشيئًا من التأثر بحضارات الآخرين. وما بقايا بعض آثارهم المعمارية الموشومة بالنقوش وبعض الخامات الأخرى، التي كانت غريبة في ذلك الوقت، إلا دليل على بعض المواسم والمناسبات التي يتفردون بها عن الآخرين، ومن أبرزها موسم أو مناسبة ظهور «أسماك الحريد» التي تزور أحد سواحل فرسان كل عام مرة.
ظاهرة أسماك الحريد
أسماك الحريد «ببغاء البحر» ظاهرة طبيعية بحاجة إلى دراسة علمية مكثفة من قبل علماء بحار متخصصين. إن هذه الظاهرة لا تحدث إلا مرة كل عام بين النصف الثاني من شهر أبريل والنصف الأول من شهر مايو حسب الشهور الميلادية.. وما يلاحظ أن ظهور سمك الحريد مرتبط بالقمر الذي يؤثر في البحر من حيث «المد والجزر»، إذ لا يمكن أن يظهر إلا في النصف الثاني من الشهر القمري، وغالبًا ابتداءً من السادس عشر إلى الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين.. وأكثر ما يكون كثافة في الثلاثة الأيام الأولى.. وما يلاحظ أيضًا أنه في السنة الأولى، من الدورة الأولى، يكون ظهوره في اليوم السادس عشر من الشهر القمري. أما السنة الثانية فإنه يظهر في اليوم السابع عشر، وفي السنة الثالثة في اليوم الثامن عشر أي بفارق تأخير يوم واحد، تقريبًا، في كل عام. وهذه الفوارق الزمنية من حيث التقدم أو التأخر في الظهور تعرف عند الفرسانيين بقولهم: «أول حول وثاني حول وآخر حول» وهو الحول الثالث أو العام الثالث.
علامات ظهور أسماك الحريد
إن موسم أسماك الحريد أو موعد ظهوره يكون في النصف الثاني من شهر أبريل وبداية النصف الأول من شهر مايو. ومن هذا المنطلق تقول الدراسات العلمية: «إن الغذاء الذي يعتمد عليه الحريد يشيع في هذا الوقت من السنة ويرتبط باكتمال القمر». ومن الدلائل على قرب مجيء أسماك الحريد حيث تهب رائحة أقرب ما تكون إلى الزفارة بعد غروب شمس كل يوم ابتداءً من اليوم العاشر، تقريبًا، من الشهر القمري الذي ستظهر فيه هذه الأسماك. وأهل فرسان يسمون هذه الرائحة «بوسي». وقد تبين من خلال الدراسات أنها رائحة بيوض الشعاب المرجانية الملساء التي تتكاثر في هذا الوقت من السنة وتحديدًا في المساء عندما يبدأ القمر في التكامل.
الوصف العلمي لأسماك الحريد
في دراسة علمية عن ظاهرة أسماك الحريد في فرسان، من إعداد إدارة الثروة السمكية بفرسان، تقول هذه الدراسة: «تسمى أسماك الحريد باسم «الببغاء الطويلة الأنف» Parrot Fish - Long Nose. وهذا الاسم مشتق من كثرة ألوان هذه الأسماك وطول فكها العلوي بما يشبه منقار الببغاء الذي يستخدم في رعي الطحالب على الصخور الكلسية، واسم هذا النوع مشتق من الاسم الغربي Hippo ccrushorid. وينتمي هذا النوع إلى عائلة Soarli daez وتتوزع هذه العائلة في النطاق الاستوائي ومنها خمسة عشر نوعًا ممثلة في البحر الأحمر، وهي من الأسماك الشعابية التي يرتبط وجودها بالشعاب المرجانية، وتتجمع هذه الأسماك في وقت محدد لوضع البيض والتكاثر». ومن وجهة نظري أن الحريد بحاجة إلى المزيد من البحث العلمي للتأكد من حقيقته كظاهرة طبيعية غريبة تحتاج إلى دراسة علمية جادة من قبل علماء متخصصين في علوم البحار، خصوصًا أن البوصلة البيولوجية لهذه الأسماك لا تخطئ توقيتها ولا مسارها المحدد الذي يجعلها لا تأتي إلا إلى الساحل المرتبط باسمها «ساحل الحريد» في زمنها المعتاد سنويًّا الذي يجعل أهل فرسان على موعد لانتظار صيدها.
أنواع الحريد
بعيدًا عن التصنيف العلمي لعائلة الحريد المعروفة باسم (Soarlidac) التي تعيش في النطاق الاستوائي، والتي تقسم إلى خمسة عشر نوعًا فإن تصنيفه على المستوى المحلي، حسب معرفة الصيادين، ينقسم إلى نوعين:
النوع الأول: وهو الذي يعيش بالقرب من السواحل في تجاويف الشعاب المرجانية، وهو موجود طول أيام السنة ويعيش بشكل فردي، أو في مجموعات صغيرة متفرقة. وأهم خصائصه رائحته الحادة، وألوانه المتعددة المتداخلة الصارخة، ولا يوجد فيه ما يدل على سَمَنِه.
النوع الآخر: وهو الحريد «الظاهرة» الذي نحن بصدد الحديث عنه.. وهذا لا يأتي إلا كل عام مرة في شهر قمري، يتكرر كل ثلاثة أعوام كما أسلفنا، حيث يأتي في مجموعات أو أسراب، كثيفة العدد، يضم كل سرب منها آلاف الأسماك. وهذه الأسراب يُسمّي الفرسانيون الواحد منها «السواد» بسبب ألوانه التي، بسبب تداخلها في المياه، تميل إلى اللون الأسود وتدل على وجوده في أثناء تهاديه إلى الساحل.. وغالبًا ما يكون ظهوره في الساعات الأولى من صباحات أوائل النصف الثاني من الشهر القمري. ومن خصائصه أن رائحته لم تكن حادة، وألوانه هادئة، وكبدته كبيرة، قياسًا على الأنواع الأخرى، وغنية بالدهن. وعقب أكله يشعر الإنسان بحاجته إلى شرب الماء، ولذلك يلجأ الفرسانيون إلى كسر شدة الظمأ، بعد أكله، بشرب القهوة المصنوعة من قشر البن، والزنجبيل، والهال، والقرفة المحلاة بالسّكر. ويصنفون أنواع الحريد إلى ثلاثة مسمّيات:
• الخَضَاري: وهو الأكبر حجمًا، ويغلب عليه اللون الأخضر خصوصًا في منطقة البطن.
• الزِّيَادي: وحجمه أقل من الخضاري، وألوانه أقل حدة من الخضاري.
• الحريدة: وهي الأصغر حجمًا، لكنها الأوفر من حيث الكثافة العددية.
مواصفات ساحل الحريد
ساحل الحريد عبارة عن خور أشبه ما يكون بالبحيرة، مغلق، باليابسة، من جميع الجهات باستثناء مدخلين ضيّقين.. وتحيط بهذه البحيرة جبال ذات تجاويف جعلتها على شكل مظلات ينخفض البحر عن مستوى رؤوسها بمقدار ثلاثة أمتار تقريبًا. وهذه التجاويف كانت قبل أزمنة جيولوجية سحيقة مغمورة تحت الماء، ثم انحسر عنها تحت حدوث
عوامل جيولوجية، وعوامل تعرية أحدثتها الأمواج وأحدثت فيها تلك التغييرات.. وتقول الدراسة التي سبقت الإشارة إليها: «الغريب في الأمر أن المنطقة التي يظهر فيها الحريد، في فرسان، تمتاز بنوع نادر من الشعاب المرجانية (Acropora) لم يسجل في البحر الأحمر إلا في هذه المنطقة وفي خليج السويس».
ولأن أسماك الحريد أسماك وديعة فإن سلاحها، في الدفاع عن نفسها، يكمن في نعومة ملمسها وشدة لزوجة أجسامها.
الحريد والطيور المهاجرة
عبر التاريخ
ربما يظن كلنا أو بعضنا أن الاحتفاء بقدوم الطيور المهاجرة إلى أجواء جزيرة قماح، إحدى جزر فرسان، والهبوط فيها وقدوم أسماك الحريد إلى سواحل جزيرة فرسان ربما يظنون أنهما ظاهرتان حديثتان اكتشفتهما واحتفت بهما الأجيال الحديثة، والواقع أن الأمر لم يكن كذلك. فهذا المؤرخ ابن المجاور جمال الدين الدمشقي يشير في تاريخه المسمى «صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز» والمعروف، اختصارًا، بـ«المستبصر».. ابن المجاور هذا الذي ولد في عام 601هـ، وتوفي عام 690هـ يشير في تاريخه السالف الذكر إلى أن أهل فرسان تأتي إليهم سنويًّا طيور وأسماك، وأنهم يخرجون إلى الساحل لصيدها ويفتكون بها ذبحًا وطبخًا.. ورغم قصر المعلومة إلا أنها تدل على أن الناس في هذه الجزر كان لا يخلو وقتهم من مباهج وأفراح احتفالية.. وإذا افترضنا أن ابن المجاور قد ألف كتابه وهو في الخمسين من عمره فإن عمر كتابه هذا يتجاوز السبع مئة والثمانين عامًا.. وهذا ليس هو التاريخ النهائي لهذه الاحتفالية التي ربما سبقت ابن المجاور بمئات السنين.
الاحتفاء بالحريد عند الفرسانيين
في بداية الشهر القمري، الذي سيظهر فيه الحريد، أو قبله بأيام تبدأ الاستعدادات لاستقباله. وقبل وجود السيارات، في زمننا الحاضر، كان الشبان يعتنون بتربية الذلل «الجمال» التي يمتطونها في الذهاب إلى ساحل الحريد. والغالبية منهم يركزون عنايتهم على دوابهم، من الحمير، حيث يقومون بتغذيتها تغذية جيدة، وينسجون لها العصائب المزركشة التي يضعونها على رؤوسها، كما يعلقون في أعناقها أجراسًا نحاسية صغيرة تحدث رنينًا موسيقيًّا في أثناء الركض ذهابًا وإيابًا.
تبدأ مسيرة الذهاب إلى ساحل الحريد، والتي يشارك فيها معظم الفرسانيين من الرجال والشبان والصبيان، بعد صلاة الفجر، ليصلوا إلى الساحل عند طلوع الشمس أو قبله أو بعده بقليل. وهناك يتوزعون على حافة الساحل البالغ طوله حوالي أربعة كيلومترات، ويكونون على شكل مجموعات صغيرة ينثرون أبصارهم على سطح البحر الذي عادة ما يكون هادئًا في ساعات الصباح الأولى ليرتقبوا ظهور أسْوِدَة «أسراب» الحريد القادمة من العمق متجهة نحو حافة الساحل وكأنها على موعد مع أحضان شباك الصيادين التي طال بها الانتظار. أول عمل يبدأ به الجمهور، المنتظر ظهور أسماك الحريد على صفحة الماء، هو تناول طعام الفطور الذي يحضرونه معهم من منازلهم. ولابد أن يكون الكين «النبق» عنصرًا أساسيًّا فيه، لأن موسم الحريد وموسم استواء ثمر النبق يكونان في وقت واحد، تقريبًا، بالإضافة إلى العيش الحامض «خمير الذرة المحلية»، كما كانوا يحضرون الشاي على مواقد الحطب، قبل معرفة «الثيرموس». وإذا ما ظهر أول سواد «سرب» من قطعان السمك لدى أفراد أي مجموعة من المجموعات المنتشرة على حافة الساحل تنادوا بأصوات مرتفعة «أدوال.. أدوال..» وكلمة أدوال هذه معناها شباك الصيد، وحينئذ ينزل الصيادون إلى البحر ركضًا ناشرين شباكهم للإحاطة بالسرب الذي ظهر، وإذا ظهر سرب آخر تكررت العملية نفسها. وإذا تم كل ذلك بنجاح رفرفت الفرحة على رؤوس الجميع، وتعالت صيحاتهم وزغاريدهم ابتهاجًا بذلك، وراح الصيادون يقتربون بالأسماك، المحاطة بالشباك، إلى حافة الساحل إلى عمق نصف متر تقريبًا.
عندئذ تبدأ الأسماك بالاضطراب بسبب استشعارها «رائحة العراء» لكن الصيادين يضاعفون الشباك حولها ويتركون ثلاثة أشخاص أو أربعة، من الصيادين، خلف سور الشباك ليراقبوا الأسماك خوفًا من أن تجد فتحة تتسرب منها إلى خارج المدار الذي تتحرك فيه.
وحتى لا تتعرض الشباك للتمزيق في أثناء الهجوم فإنهم يأتون بحزم من شجيرات، تنبت بالقرب من الساحل، يسمونها «الكِسْب» بكسر الكاف وسكون السين، يسورون بها السمك بدلاً من الشباك التي يخشى عليها من التمزيق، ومع ابتداء بناء السور الشجري يبدأ العد التنازلي للانطلاق، ويبدأ مع ذلك توتر الأعصاب لدى كل المنتظرين على حافة الساحل. وما تكاد تتم عملية التسوير بالشجر حتى يصيح العريف بصوت عالٍ «الضويني»، وهو مصطلح يعرف معناه الجميع بأنه الإذن بالهجوم على السمك المسكين ليصطاد كل شخص، بيده، ما تسمح له به مهارته.. وهذه هي أجمل الدقائق في هذه المناسبة حتى إن من يأتي بقصد الاستمتاع ينسى، ساعة الاندفاع والركض، أنه جاء ليتفرج، فقط، ويجد نفسه بين القوم يجمع السمك في ثيابه الأنيقة لأنه لم يكن مستعدًّا، كالآخرين، بالكيس الخاص بالصيد.
الحريد والعرائس
من المظاهر المألوفة والمتبعة في موسم الحريد إقامة الاحتفالات الشعبية في منازل العرائس من الفتيات اللاتي تم زواجهن في العام نفسه.. أي أن يكون هذا الموسم هو الأول في عمر زواج العروس، إذ تتخذ هذه الأفراح طابعًا خاصًّا، حيث تتجمع النساء في منزل صاحبة العرس عصر كل يوم من أول يوم يظهر فيه الحريد حتى آخر يوم.. وبهذه المناسبة ينشد الشعراء الشعبيون شعرًا يتغنى به النساء في منازل الأعراس ويصبح تداوله شائعًا على ألسنة الناس. ومن الطبيعي والمألوف أن تسمع بعضهم يغني:
حريدنا قد خرجْ ورَدّ العاده
وهــــبْ كل شــــي زيـــــــاده
ردوا ليالي الحريد كما المعتاده
وهبوا للحسين وساده
ولأن ظاهرة أسماك الحريد في فرسان ظاهرة غريبة لا على مستوى وطننا، المملكة العربية السعودية، ولكنها قد تكون على المستوى العالمي فقد لفت ذلك نظر صاحب السمو الملكي أمير منطقة جازان محمد بن ناصر بن عبدالعزيز الذي بذل جهده لتهيئة الإمكانات بجعل هذه الظاهرة مهرجانًا وطنيًّا سنويًّا يحضره الآلاف من الناس، ومن كبار المسؤولين، بل الكثير من الأجانب الغربيين وغيرهم. وتنقل فعالياته، مباشرة، عبر فضائياتنا السعودية وبعض الفضائيات الأخرى. ويكون ضمن فعالياته عدة ليال ثقافية تلقى فيها الكلمات، والقصائد، والأوبريتات التي يكتب كلماتها ويلحنها وينشدها أبناء فرسان أنفسهم.