سامراء..
التاريخ والحضارة
لقد تفوقت «سُرَّ مَنْ رأى» على سائر المدن العباسية بقصورها ومساجدها وحدائقها، وبكل مظهر من مظاهر الترف والنعيم. وشاء الله أن تكون سامراء عاصمة الدولة العظمى، لثامن الخلفاء العباسيين المعتصم بالله محمد بن هارون الرشيد. إلا أنها في نهاية القرن الثالث خربت وهُجرت ولم تعد كما كانت، وذلك بسبب عودة الخلافة إلى بغداد، حيث استعادت مكانتها لتكون حاضرة الدنيا.
د.رفيق السامرائي
أستاذ الدراسات الإسلامية
بجامعة الأمير محمد بن فهد بالخُبر
الموقع الجغرافي لسامراء
تقع سامراء شمالي بغداد بـــــــ120 كم، وهي على الجانب الشرقي لنهر دجلة، وهي تتميز بنقاء هوائها، وطيب تربتها، فهي من المدن الزراعية. لقد حظيت سامراء باهتمام الباحثين في أواخر القرن العشرين، ما جعل مديرية الآثار العامة العراقية تهتم بالتنقيب عن الآثار، والعمل على ترميمها.
سبب تسميتها بسامراء
عند البحث عن التسمية لهذه المدينة نجد أن كتب المؤرخين، والمحدثين كالخطيب البغدادي في تاريخه يذكر اسم: سُرَّ مَنْ رأى، وسامرا، وسامراء، وسامرة، والأشهر: سُرَّ مَنْ رأى، وذلك عند إيراده الأحاديث المسندة في كتابه.
والذي يظهر أن هذا الاسم من إطلاق الخلفاء العباسيين لها. أما أصل الاسم فهو كما نقل ياقوت الحموي في معجمه أن المدينة بنيت لسام بن نوح ونسبت إليه بالفارسية سام راه. وقيل هو موضع لقبض الخراج، قالوا بالفارسية: ساء مرة، أي: موضع الحساب، وهي مدينة عتيقة، تُحمل إليها الإتاوة، التي كانت موظفة لملك الفرس على ملك الروم.
لأن سا: اسم الإتاوة، ومرة: اسم العدد، والمعنى: أنه مكان قبض عدد جزية الروم.
ونقل ياقوت: أن سامراء بناها سام بن نوح، عليه السلام، ودعا ألا يصيب أهلها سوء.
وعلى ذلك فإن إطلاق سر من رأى من قبل الخلفاء العباسيين، كما أشرنا آنفًا، لما تميزت به المدينة من القصور والمساجد والحدائق الغناء، وغير ذلك، لأنها تُسر من يراها.
مظاهر الحضارة في سامراء
إن مظاهر الحضارة في هذه المدينة يتمثل في جوانبها المادية والفكرية، فمن حيث مظهرها المادي، فقد اشتملت على قصور عدة، كدار الخلافة، وهو من أفخم القصور وأهمها في عهد الخليفة المعتصم، وقصر الجوسق، والأواوين العامة، والقاعات الكبيرة، والساحات والجدران المطلية والمنقوشة، والزخارف المحفورة، إلى غير ذلك من القصور والطرقات، ما يسر الناظر ويبهج الخاطر.
أما الجوامع والمساجد، فلعل أبرزها هو: الجامع الكبير، ومئذنته الشهيرة بـــ«الملوية»، وهو من أعظم المعالم الحضارية الإسلامية في العهد العباسي. ويعد اليوم أكبر جامع أثري في العالم، حيث تعادل مساحته ضعفي مساحة جامع ابن طولون في القاهرة. ويعد الخليفة العباسي المتوكل، وهو الذي بنى هذا الجامع من أكثر الخلفاء العباسيين عناية بمدينة سامراء، حيث قام بتوسيع عمارة المدينة وشق شوارعها.
وثمة مساجد أخرى كمسجد أبي دلف في المدينة المتوكلية، والتي بناها المتوكل سنة 245هـ الموافق 860م في مدينة سامراء.
أما تسمية المسجد بأبي دُلف، فنسبة إلى القاسم بن عيسى، الملقب بأبي دُلف. ومسجد أبي دلف يشبه من حيث الشكل والتخطيط الهندسي مسجد الجامع الكبير بسامراء، وقد تم بناؤه على شكل مستطيل طوله 215 مترًا، وعرضه 180 مترًا. وهو واسع المصلى، وله صحن طوله 156 مترًا، وعرضه 105 أمتار، تحيط بجوانه أروقة ذات أعمدة مستطيلة الشكل، وتحمل أقواسًا مشيدة بالتناظر والتوازي. ففي جداره الشرقي يمتد رواقان متوازيان من الشمال إلى الجوانب بعمق 14 مترًا، ولكل من الرواقين 36 عامودًا مستطيل الشكل تحمل أقواسًا تتجه باتجاه القبلة، وتُطل على صحن المسجد، وتؤلف فيما بينها 19 رواقًا، عرض كل منها 4 أمتار ما عدا الرواق الأوسط فعرضه 5 أمتار.
ويقع هذا الجامع في الجهة الشمالية من سامراء بنحو 18 كيلو مترًا.
ولم يبق من المسجد إلا معالم قليلة منه، حيث لحق به الخراب على فترات متقطعة، وقد تم ترميم أقواسه في أواخر القرن العشرين من قبل مديرية الآثار العراقية. والجدير بالذكر أن هذا العمران كان ييسر وفق النظام المالي للدولة، حيث يمثل عصب الحياة للدولة العظمى آنذاك. وهو كذلك في أنظمة الدول المعاصرة اليوم.
ولكون سامراء هي العاصمة، فمن الطبيعي أن تدار منها الأنشطة السياسية، والعسكرية، والإدارية، وغير ذلك.
فمن سامراء توجهت جيوش المسلمين لإخماد الثورات والاضطرابات، أو لفتح العديد من الحصون والقلاع الرومانية. وخير دليل على ذلك، هو ما قام به المعتصم عندما جهز جيشًا كثيفًا من سامراء، وتوجه به لفتح مدينة عمورية، مسقط رأس الأباطرة البيزنطيين.
كما انطلقت الحملات ضد صاحب الزنج وتمكن الخليفة الموفق بالله من الإجهاز عليه.
وليس بمستغرب أن يقوم الخلفاء بالتصدي للمخالفين والمعارضين من مدينة سامراء، فقد نقل الإمام الذهبي في السير أن الواثق قضى على أحمد بن نصر الخزاعي وجماعته، فكانت النهاية أن يهلك بضرب عنقه، فبقي الرأس منصوبًا ببغداد، والبدن مصلوبًا بسامراء ست سنين إلى أن أُنزل، وجُمع في سنة سبع وثلاثين ومئتين، ثم دُفن رحمه الله.
العمران
بعد أن اتخذ الخليفة المعتصم بالله سامراء عاصمة لدولته بدأت تزدهر شيئًا فشيئًا حتى تفوقت على مدينة المنصور ببغداد، ذلك أن حركة العمران اتسعت بشكل لافت للنظر، خصوصًا في عهد المتوكل الذي أعطى لحركة البناء والتعمير جهدًا كبيرًا، تمثل في التخطيط وشق الطرق، وبناء مدن أخرى ملتحقة بسامراء، كالمتوكلية التي تقع شمال سامراء، وفيها جامع أبي دُلف، ومدينة القادسية، والعسكر، وكرخ سامراء.
وعلى الرغم من قصر الفترة الزمنية، والتي استمرت 50 عامًا، إلا أنها تميزت بالتصميم الرائع، والفن العجيب، والزخرفة البديعة، والساحات الفسيحة، والأروقة العديدة، والحمامات والسراديب، وغير ذلك.
وكل ذلك تم بعد أن طلب الخلفاء البنائين والمهرة والحذاق، والصنّاع من كل مكان، فجاؤوا إلى سامراء. ولعل تشجيع الخلفاء، وما قدموه من حوافز مادية، جعلت المهرة والحذاق من أهل الصناعة والفن يأتون للعمل، الأمر الذي ساعد على روعة المدينة من الناحية العمرانية والفنية.. وغيرها.
إن شكل التخطيط، والعمران والنقوش والزخرفة، تعكس للناظر الذوق والفن العربي الإسلامي الأصيل، والطراز العباسي الفريد.
ومما يؤسف له، أن تلك القصور والمساجد لم يبق منها إلا الأطلال، وهي شاخصة إلى يومنا هذا، ما دفع مديرية الآثار العامة العراقية في نهاية القرن العشرين إلى التنقيب والحفر، للكشف عن بدائع الطراز العباسي في تلك الحقبة.. وبالفعل تم اكتشاف العديد من القصور، والزخارف، والنقوش.
أهم القصور التي خلَّفها العباسيون في مدينة سامراء:
قصر الخلافة
اختلف المؤرخون والكتّاب حول مسمى قصر الخليفة، فذكره بعضهم بأسماء عدة، كبيت الخليفة، أو دار العامة، أو الجوسق الخاقاني، إلى غير ذلك. أما مسمى دار الخليفة فذكرته مديرية الآثار العراقية في كتاب آثار سامراء، وذكرت أن التنقيبات التي قام بها «فيوليه» في سنة 1910، وأعقبه في سنة 1911 العالم هرتسفلد، حيث قام بتنقيبات واسعة النطاق دامت عدة سنوات، شملت كلاً من دار الخليفة، وقصر بلكوارا، والمسجد الجامع، وتل العليق، مع نحو خمس عشرة دارًا من دور السكنى الخصوصية.
وتُعد دار الخليفة من أهم القصور وأعظمها التي بنيت حين تأسست سامراء، حيث يبلغ طول واجهته من النهر 700م، وأما المسافة التي بين بابه ومنتهى بنياته الخلفية فلا تقل عن 800م، وذلك بقطع النظر عن الحديقة الفسيحة التي كانت تمتد أمامه حتى شاطئ النهر على طول 600م. فالأقسام التي تلفت النظر بين أطلال القصر تنحصر فيما يلي:
• الأواوين القائمة في المدخل المطل على السهل، وتسمى باب العامة.
• السراديب المحفورة في الجهة الشرقية.
• الهاوية الكبيرة التي تقع في الجهة الشمالية.
قصر الحويصلات
ومن أهم العمارات التي خلَّفها المعتصم، والتي تقع على نهر الإسحاقي، ولا تزال آثارها باقية، قصر الحويصلات، حيث يقع هذا القصر على الضفة اليسرى من نهر الإسحاقي بإزاء سور أشناس. ونهر الإسحاقي هذا يستمد مياهه من نهر دجلة من جهة الغرب، حتى ينتهي في دجلة، أيضًا، في الحد الجنوبي لمدينة سامراء.
وتبلغ مساحة بناية هذا القصر حوالي تسعة عشر ألف متر مربع، أما مساحة القصر مع حديقته وسوره الخارجي فتزيد على المئة والثلاثين ألف متر مربع. وثمة أوصاف أخرى لهذا لقصر، ما يدل على ضخامته، وعلى ما وصل إليه العباسيون من فن معماري رفيع.
قصر أشناس
ويقع بإزاء قصر الحويصلات من الناحية الشرقية لنهر دجلة، ولم يبق من هذا القصر سوى أسواره من ثلاث جهات فقط، هي: الشرق والشمال والجنوب. وهذا القصر يقع بكرخ فيروز الذي يبدأ منه الشارع الأعظم متجهًا شمالاً، وقد مد المتوكل هذا الشارع حتى مدينة المتوكلية.
مدينة العسكر
أنشأها المعتصم حين مقدمه سامراء، وهي عبارة عن ثكنات عسكرية لإقامة الجيش ومعداته. وهي تقع في الجانب الغربي من نهر دجلة، على بعد حوالي خمسة عشر كيلو مترًا إلى الجنوب من مدينة سامراء الحالية.
ويمكن القول إن المعتصم شرع في بناء هذه المعسكرات في أثناء مكوثه في القاطول. وبعد أن انتقل إلى سامراء ارتأى ضرورة الاستفادة من هذه المدينة، فأضاف إليها السور الخارجي.
قادسية سامراء
وهي تقع إلى الجنوب من سامراء الحالية بحوالي خمسة عشر كيلو مترًا، ولها سور عظيم. وهو عبارة عن مثمن يقع في منبسط من الأرض فسيح، إلا أنه تهدم منه الكثير، وبقيت آثاره. لقد اختلف المؤرخون في التصريح بباني قادسية سامراء، ومنهم من يرى أن هذا من عمل أبنية المعتصم، ويرى آخرون غير ذلك. والله أعلم بالصواب.
قصر الهاروني
وهو من أعمال الخليفة الواثق، حيث لم تشر المصادر التاريخية أو الأثرية إلى أي قصر غير هذا للخليفة الواثق. إن الذين قاموا بتنقيبات عديدة في تلك المدينة لم يشيروا فيما عثروا عليه إلى مكان محدد للقصر، حيث اختلف الكثيرون منهم بالنسبة لموقعه، وإن كانوا قد اتفقوا على أن هذا القصر يقع إلى الشمال الغربي من دار الخليفة، إلا أنهم لم يتمكنوا من تحديده بدقة. وربما عثرت مديرية الآثار العراقية على بقايا قصر على نهر دجلة في الجهة الشمالية الغربية من بيت الخليفة، ويعتقد أنه القصر الهاروني.
القصر الجعفري
يقع هذا القصر في مدينة المتوكلية التي تبعد عن مدينة سامراء الحالية بعشرين كيلومترًا. ولعل القصر الجعفري هو أهم أبنية المتوكل في الجعفرية الذي أقام فيه طيلة بقائه في مدينته المتوكلية، منذ قدم إليها حتى قُتل في القصر نفسه. وقد بلغت النفقة عليه فيما قيل ألفي ألف دينار. ويقال: إن المتوكل قال لرجل: ما تقول في دارنا هذه؟ فقال: إن الناس بنوا الدور في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك. وقد اشتهر هذا القصر بحسنه وفخامة بنائه، حيث كان مصدر وحي الشعراء، كالبحتري، وغيره.
وثمة قصور أخرى كالمعشوق، وبروكارا، والعروس، والمختار، والبرج , والمليح، واللؤلؤة، وغير ذلك من القصور.
الحياة الروحية والعلمية بسامراء
أما بشأن الحضارة العلمية والروحية، فقد كانت سامراء مركزًا مشعًا لاجتماع علماء الفقه، والحديث، واللغة، والشعر والأدب. فقد ورد إليها العديد منهم، بل وأقام فيها الكثير منهم.
كما أن الناظر في كتب الأدب والتأريخ والمعاجم، يجد أن الشعراء، كان لهم الدور البارز، سواء ما كان في وصف قصور سامراء، ووصف مساجدها وحدائقها وطرقها.. أو ما قام به الشعراء من مدح الخلفاء، وغير ذلك، ومنهم الأديب الجاحظ، والشاعر البحتري. وكان الأخير من أكثر الشعراء وصفًا لهذه المدينة، وأكثرهم قربًا من الخلفاء، فقد لقي منهم التكريم والتبجيل. إن شعر البحتري لوصف سامراء، ساعد المؤرخين على كشف المظهر الحضاري الذي تتمتع به سامراء آنذاك وتدوينه.
والجدير بالذكر أن الخلفاء استفادوا من الأدباء والعلماء، وذلك باتخاذهم مؤدبين ومعلمين لأولادهم، فقد استدعى الخليفة المتوكل الأديب الجاحظ ليكون مؤدبًا لأولاده. ومن الطريف أن الجاحظ قال: لما رآني المتوكل استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني.
وثمة شعراء وأدباء آخرون عاشوا في سامراء، ونظموا الشعر فيها، كأبي تمام الطائي، والذي صحب المعتصم في فتح عمورية.