الشحرور والحرية
بقلم: محمد سعيد المولوي
رسم: ريم العسكري
يقعُ بيتُنَا في منطقةٍ تكثرُ فيها الأشجارُ، وقد أَلِفَتْ هذه الأشجارَ مجموعةٌ من الشحاريرِ حسنةُ الأصواتِ جميلةُ التغريدِ. والشحرورُ طائرٌ أكبرُ من العصفورِ بقليلٍ، أسودُ اللونِ لهُ منقارٌ أصفرُ، سريعُ الحركةِ والطيرانِ، ينتقلُ من غُصْنٍ إلى آخرَ ويأخذُ بالتغريدِ بصوتٍ ساحرٍ يأخذُ بالألبابِ ويسحرُ النفوسَ، وكان بين هذه الشحاريرِ شحرورٌ أجملُهَا لونًا وأحلاها تغريدًا وأنشطُها حركةً، فقالَ والدِي لا بُدَّ من الإمساكِ بهذا الشحرورِ ووضعهِ في قفصٍ وأجعلُهُ في البيتِ فأترنَّمُ بصوتهِ عن قربٍ.
أحضرَ أبي قفصين، أحدهما كبيرٌ والآخرُ صغيرٌ هو عبارة عن مصيدةٍ تُمسِكُ بالشحرورِ دونَ أن تؤذيَه، ووضعَ أبي فيها قطعًا صغيرةً من اللحمِ وماءً، ثم علَّقَهَا على طرفِ الشرفةِ، فاغْترَّ الشحرورُ بالطعامِ فدخلَ في المصيدةِ فأطبقتُ عليه.
كان فرحُ أبي عظيمًا فأحضرَ القفصَ الكبيرَ وقد زوَّدهُ بالطعامِ والشرابِ، وأخرجَ الشحرورَ من المصيدةِ، وجعله في القفصِ وأطبقَ عليه البابَ ووضعَه في الشرفةِ. وجُنَّ جُنُونُ الشحرورِ فراحَ يتخبَّطُ ضمنَ القفصِ ويرمي نفسَهُ من اليمينِ إلى اليسارِ، ومن أسفلَ إلى أعْلَى يبتغِي الخلاصَ والحريةَ حتى تعبَ فانْزَوى في جانبِ القفصِ حزينًا ولم يَذُقْ طعامًا أو شرابًا وسكت عن التغريدِ، وكان بين كلِّ فترةٍ وأخرى يعيدُ الكَرَّةَ يبتغِي حريتَهُ دونَ جَدْوَى حتى تعبَ ويَئِسَ، فأوى إلى أسفلِ القفصِ وقد بدا عليه الحزنُ وقد أرخى جناحَيْهِ، وجعلَ رأسَهُ قريبًا من الأرضِ.
قلتُ لأبي: انظرْ إلى الشحرورِ إنهُ في حالةٍ سيئةٍ، وردَّ أبي لا عليكَ إنه سيعتادُ.. فَلْنَدَعْهُ اليومَ. وجاءَ الغدُ والشحرورُ قابعٌ في مكانهِ لَمْ يأكلْ ولَمْ يشربْ، وقد بدا عليه الإجهادُ والإعياءُ. فقالَ أبي لنتركْهُ حتى الظهيرةِ.. ولكنَّ حالةَ الشحرورِ كانتْ قد زادتْ سوءًا، فقال أبي إنَّ هذا الشحرورَ أكَّدَ في نَفْسِي حقيقةً خالدةً وهي أن الحريةَ هي أغلى شيءٍ في الوجودِ بعد الإيمانِ. فهذا الشحرورُ آثرَ أن يموتَ جوعًا وعطشًا مع فَقْدِ حريتهِ.
مَدَّ أبي يدَهُ إلى القفصِ وأمسكَ الشحرورَ دون أن يُبدِي أيَّ مُقَاوَمَةٍ، وراحَ يمسحُ على رأسهِ بهدوءٍ وحنانٍ. ولا شكَّ أن الشحرورَ كانَ يحسُّ بالحنانِ فكانَ هادئًا بين يَدَيّ والدِي، ثُمَّ إنَّ أبِي فتحَ يديْهِ فانطلقَ الشحرورُ كالسَّهْمِ إلى الشجرةِ المقابلةِ وأخذَ في التغريدِ وكأنهُ يشكرُ أبي على ما صنعَ.
أخرجَ أبي الطعامَ والماءَ من القفصِ ووضعهما على طرفِ الشرفةِ، ثم وقفَ وراءَ النافذةِ يراقبُ وجاءَ الشحرورُ فوقفَ على طرفِ الشرفةِ حَذِرًا، وأخذَ يتلفَّتُ يمنةً ويسرةً، ثم أقبلَ على الطعامِ ينقرُ نقرةً ويتلفتُ حتى اطمأنَّ. وعمدَ أبي إلى بعضِ القضامةِ المدقوقةِ فعجنَهَا ببعضِ الدَّبَسِ وخرجَ إلى الشرفةِ فطارَ الشحرورُ ووضعَ أبي الصحنَ بالدَّبَسِ إلى جانبِ الطعامِ ورجعَ إلى الغرفةِ وجاءَ الشحرورُ فأكلَ من الطعامِ الجديدِ وراحَ يُغَرِّدُ سعيدًا.. وهكذَا ومعَ مرورِ الأيامِ انعقدتِ الصَّداقةُ بين أبي والشحرورِ، فكانَ يأتي كُلَّ صباحٍ فيقفُ إلى جانبِ نافذةِ غرفةِ أبي فيُغَرِّدُ ويستيقظُ أبي سعيدًا مسرورًا، فيضعُ لهُ الطعامَ والماءَ. ولما أبْدَيْتُ لأبي إعجابِي بِمَا يفعلُهُ الشحرورُ قالَ: أرأيتَ يا بُنَيَّ قيمةَ الحريةِ في الحياةِ؟! فنحنُ حينَ أعَدْنَا للشحرورِ حريتَه أحسَّ بالجميلِ واعترفَ بالفضلِ، فهو يأتي كُلَّ يومٍ ليَرُدَّ لنا الجميلَ بما يسعدُنَا ويسرنَا، فإنَّ الحيواناتِ تعرفُ قيمةَ الحريةِ، والإنسانَ يعرفُ قيمةَ الحريةِ، ويحرصُ عليها، ويقاتلُ من أجلها. ولن يكونَ الإنسانُ إنسانًا حقيقيًا إلا إذا كان حرًا.. فحافظوا على حُرِّيتِكُمْ، وإيَّاكُمْ أن تُفَرِّطُوا فيها، واذْكُرُوا كلمةَ الخليفةِ عمرَ بنِ الخطابِ، رضيَ اللهُ عنه: «متى اسْتَعْبَدْتُُمُ الناسَ وقدْ وَلَدَتْهُم أمَّهَاتُهُم أحرارًا».