June2010Banner

 


مسجد عمر

تجسيد لعراقة البناء الإسلامي.



مسجد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بمنارته التي تحاكي شموخ صاحبه في دومة الجندل، أو جوف الدنيا كما سماها الرحالة الفنلندي جورج أوجست. عندما تلج هذا المسجد ترى الرهبة وقد تربصت بك، ووضعت يدها على فمك وأخرست لسانك لحظة من الزمن، وكأنها تنبهك لعظمة المكان وعبقرية تاريخه.

استطلاع وتصوير: عبدالعزيز محمد العريفي

المكان عبق بالفاروق حتى لتخال أن كل حجر من أحجاره العتيقة قد تمخضت بالطيب من يديه الكريمتين الحريصتين على إتقان كل عمل، ثم يتأرجح في ذاتك فيض من المشاعر الجياشة.

الجوف في التاريخ
لا يخفى مدى أهمية هذه الرقعة الغالية من وطننا، وما قامت به من أدوار تاريخية ساهمت إلى حد كبير في تحديد ملامح الحضارة الإسلامية، حيث كانت نقطة التقاء أهل الجزيرة العربية بأهالي بادية الشام والهلال الخصيب، وبقيت دومة الجندل والتي عرفت بأدوماتو عند الآشوريين واحة زراعية مهمة، ومحطة للقوافل وللتبادل التجاري الذي كان يمارس على نطاق واسع في سوقها التجارية المشهورة، وكان يحكمها الملك أكيدر بن عبدالملك السكوني من كندة إلى ظهور الإسلام.. وقد أسره خالد بن الوليد لتنضم بذلك الجوف إلى دولة الإسلام. ويقول أحد شعرائهم في قصيدة بعثها إلى قبيلة قريش يمجد بها بشرًا شقيق ملك دومة الجندل الذي أسهم بشكل كبير في تعريف أهل مكة بالخط العربي وطريقة الكتابة، وتزوج بأخت أبي سفيان بن حرب:

لا تجحدوا نعماء بشر عليكم
فقد كان ميمون النقيبة أزهرا
أتاكم بخط الجزم حتى حفظتمو
من المال ما قد كان شتى مبعثرا
فأجريتم الأقلام عودًا وبدأة

ويقصد بخط الجزم أي خط الجزم بن مرامر بن مرة، وكان واحدًا ممن يعدون أول من خط الحروف العربية المعروفة وكانوا من عرب طيء.
وتعد دومة الجندل اليوم من أهم المدن التاريخية بالمملكة، وثاني أكبر مدينة في الجوف بعد سكاكا، كما تزخر بالمقومات السياحية والأماكن الأثرية، فضلاً عن طبيعتها الخلابة، وبها أكبر بحرية بالمملكة. وتعد منطقة جذب للسواح وتستقطب الكثير من الجيولوجيين، وعلماء الآثار حتى المستشرقين الذين يفدون إليها وإلى مناطق الجوف المختلفة سنويًا لزيارة مسجد عمر، وقصر مارد، وقصر زعبل، وبئر سيسرة، وصخور «الرجاجيل»، وغيرها من الأماكن المهمة. ودأب بعضهم على القدوم إليها عن طريق الصحراء الكبرى وعلى ظهور الجمال بقوافل تنطلق عادة من مدينة جبة في حائل، كما فعل ذلك السفير الأمريكي وعائلته قبل سنوات عدة ليعيشوا ويستشعروا حقيقة السفر بالقوافل كما في سابق الأزمان.

مسجد عمر
والمسجد بمئذنته السامقة يعد من أهم المساجد الأثرية في المملكة العربية السعودية إن لم يكن أهمها على الإطلاق. وأهميته تنبع من كونه أنموذجًا يمثل نمط تخطيط المساجد الأولى وما كانت عليه، خصوصًا مسجد الرسول، صلى الله عليه وسلم، في المدينة في مراحله الأولى، لذا تجده مثالاً يحتذى به في كل دراسة هندسية أو تاريخية تبحث في أسلوب البناء والعمران في عصر الرسول، صلى الله عليه وسلم، وعصور خلفائه الراشدين. وكذلك تبرز أهمية هذا المسجد كون الذي أمر ببنائه هو الفاروق عمر، وكان ذلك عند عودته من فتح بيت المقدس عام 17هـ الموافق 644م، وقد بني المسجد بالحجارة والملاط، وسقفه من جذوع النخل والشجر، وعمل له منبر ومحراب بطريقة مميزة تعكس ارتقاء الذائقة في ذلك الوقت المبكر للحضارة الإسلامية، كما أن أعمدته الضخمة تحاكي البعد التنظيمي والقوة والمنعة لتلك الحضارة المؤسسة. وعلى غرار المساجد الأخرى فقد عمل له مغاسل وأماكن للوضوء تستمد مياهها من بئر قريبة حفرت لهذا الغرض لا تزال تجود بالمياه منذ ذلك الحين.

مئذنة المسجد
وتقع مئذنة المسجد في الركن الجنوبي الغربي من المبنى العام، ويقال إنها بنيت قبل المسجد ولم يطرأ عليها أي تغيير، ولم تطلها الترميمات المتتالية التي احتاج إليها المسجد طوال تاريخه. والمئذنة مربعة الشكل طول ضلعها عند القاعدة 3م، وتضيق إلى الداخل كلما ارتفعت إلى الأعلى حتى تنتهي بقمة شبه هرمية. ويبلغ ارتفاعها نحو 12.7م. وقد استخدم الحجر المشغول في بناء المسجد والمئذنة كما هي الحال في المباني المجاورة مثل قلعة مارد المشهورة، بغية الوصول إلى درجة الانسجام والتناغم الهندسي المنشودة في وسط المدينة العتيقة.. وما إن ثبتت دقة تاريخ بناء المسجد فإن ذلك يعني أنها أقدم منارة في العالم.