الفقع
ثمار البرق
مادة القشرة التي تغلف الكمأة هي المادة نفسها التي تغلف الجراد.
كلما ظهر طالع الثريا في أواخر شهر أكتوبر، وتلبدت السماء بركام الغمام، وكثر البرق والرعد وهطلت الأمطار كان في ذلك بشرى لأبناء الجزيرة بظهور الفقع في الربيع بإذن الله، وهذا ما دعا العرب إلى تسميته، أيضًا، بثمار البرق.
استطلاع وتصوير: عبدالعزيز العريفي
يمتد فصل الموسم إلى شهرين تقريبًا، تبدأ من منتصف شهر أكتوبر الذي هو أول شهور الخريف، حيث الرياح خفيفة ومتغيرة الاتجاهات، كما أن الحرارة في مثل هذا الوقت تكون مرتفعة نسبيًا فإذا ما نزلت الأمطار فهي عادة ما تكون مصحوبة بعواصف رعدية، وباجتماع وفرة المياه والأكسجين والكربون مع ارتفاع الحرارة تبدأ الأبواغ، ومفردها بوغ، بالتشكل، وذلك بعد الإلقاح النووي الذي يتم داخل محفظة غشائية صغيرة، وينتج عن ذلك، عادة، ثماني ذريرات هي بمنزلة نقاط بداية لتكون البوغ أو بذرة الفقع.
بعد ذلك تبدأ الأبواغ بالنمو لتعطي خيوطًا فطرية «الغزل الفطري» تمتد حتى تخترق جذور بعض النباتات الأخرى مثل جذور أشجار البلوط، ونبات الرقروق أو الرقا، وتمتص منها ما تحتاج إليه من غذاء ومعادن لنموها، إذ إنها لا تملك القدرة على فعل ذلك بمفردها، ولا تستطيع صنع غذائها بنفسها. وتتم علاقة التكافل هذه في رحم من تربة جيرية كلسية، ومع توالي هطول الأمطار وعلى عمق يتراوح ما بين 15 سم إلى 20 سم تبدأ الكمأة أو الفقعة بالتشكل على هيئة تشبه إلى حد كبير درنات البطاطس، ما دعا بعضنا لتسميتها تهكمًا ببطاطا الصحراء. وتستمر الكمأة في النمو طوال فصل الشتاء، ثم ما تلبث حتى تبدأ بدفع أديم الأرض عنها، فتنتفخ بذلك قشرة الأرض أو تتشقق فيكون ذلك من أبرز العلامات الدالة على وجودها.. وبوادر ظهور الفقع تكون عادة في أوائل شهر يناير.
والكمأ أو الفقع ينتمي إلى الفطريات التي فصلت حديثًا عن مملكة النبات، ليكون لها مملكة خاصة بها وينضوي تحتها ما يقرب من المئة ألف نوع. ومن المفارقات العجيبة أن «الشاتن» مادة القشرة التي تغلف الكمأة هي المادة نفسها التي تغلف الحشرات ومن ضمنها الجراد بالطبع الذي يعد من الأكلات باهظة الثمن، والمنافس الأقوى للفقع على موائد أهل الخليج. وتتميز مادة الشاتن بالقوة والصلابة الـلازمتين لحماية هذه الكائنات الحية والفطرية من غوائل الطبيعة.
أنواع الفقع
ينقسم الكمأ إلى سلالات عدة مشهورة أهمها:
• الكمأ الأسود، الجباء، ويكثر في المغرب العربي وأوروبا، وخصوصًا في فرنسا. ويتميز بمذاقه اللذيذ، حيث يخلط مع كبد الأوز المعلف قسرًا، ويصنع منه الباتيه، وهي أكلة فرنسية مشهورة باهظة الثمن. وهذا النوع من الفقع ينمو عادة بين خطي عرض 40 درجة إلى 47 درجة، حيث يقوم الأوروبيون بالبحث عنه في موسمه باستخدام الكلاب المدربة خصيصًا لهذا الغرض. وهذه الطريقة التي لا تخلو من الطرافة تعد الأفضل والأسرع على الإطلاق لجمع الفقع. كما يستخدم الكمأ الأسود لتخدير النحل وقت جني العسل.
• الكمأة الحمراء، البلوخ: وهي من أندر أنواع الفقع، وتكثر في رياض صحارى الجزيرة العربية.
• الكمأة البيضاء، الكمأة: وقد تميل قشرتها إلى السمرة ومن أسمائها، قرحان، وتكثر في بلاد الشام.
• الكمأة السمراء المشوبة بحمرة، الخلاسي: وهي من أجود أنواع الفقع، ويكثر هذا النوع في المغرب العربي، وفي الجزيرة العربية، خصوصًا في مناطقها الشرقية.
• الكمأة شديدة البياض، العســـــاقل: ويشوب بياضها حمرة وحجمها أكبر من حجم الكمأ الأبيض، وتكثر في بلاد الشام وتركيا.
• الكمأة البيضاء الثلجية، وهي من أكثر أنواع الفقع انتشارًا وتميزًا بحجمها الكبير وطعمها اللذيذ، فضلاً عن سرعة تكونها، حيث إنها، عادة، تكون أول ما يجنى من الفقع، بيد أنها رديئة التغذية إذا ما قورنت ببقية الأنواع الأخرى.
• الكمأة المغبرة، الأوبر أو الهوبر ضرب من الكمأ صغير الحجم يميل إلى السواد، وهي من أردأ أنواع الفقع. والفقع شأنه شأن أي نبات آخر قد يختلف باختلاف الأرض. فالفقع الذي ينمو في صحاري الجزيرة العربية، خصوصًا في المناطق الشمالية منها مثل منطقة حائل ذات التربة الخصبة المتميزة والغنية بالمعادن، لا يمكن مقارنته بالفقع المستورد الرديء نسبيًا من ناحية الجودة، والمذاق، والرائحة، علاوة على ما يتميز به فقع الجزيرة من فوائد صحية جمة تفوق بنسب متفاوتة نظيره الأجنبي، ولا ينافس فقع الجزيرة في الجودة وغزارة الإنتاج إلا فقع المغرب العربي.
الفقع في القرآن والسنة
روى البخاري عن سعيد بن زيد، رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين». والمن جاء ذكره كذلك في القرآن الكريم في سورة البقرة آية: «57» قال الله سبحانه وتعالى مخاطبًا بني إسرائيل }وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم..الآية{.
الفقع في الطب القديم
وقد جاء ذكر الكمأ في كتب الطب القديمة بصور لا تخلو من التشويه والإجحاف في حق هذه النبتة المباركة، فقد ذكره ابن البيطار على سبيل المثال في كتابه «الجامع لقوى الأدوية والأغذية» بأنه تافه لا طعم له، وأنه يورث عسر الهضم.
ومع احترامنا وتقديرنا لكثير مما جاء في هذه الكتب إلا أنها رغم قيمتها التاريخية فإنها تفتقر إلى الدقة العلمية، وتعتمد الحقائق الهشة، والنقل أكثر من العقل، ما يجعلها تجنح في كثير من الأحيان إلى إيراد الخرافات والأساطير المنسوجة حول الكثير من النباتات والأدوية، ما ينأى بها عن المنهج العلمي الصحيح، وينفي عن بعضها الجدية، ولا تناسب متغيراتنا الزمنية.
جني الفقع
وأفضل وقت لجني الكمأ يكون عادة بعيد شروق الشمس، حيث يكون للانتفاخات التي تحدثها لقشرة التربة ظلال تدل عليها، وكذلك في آخر النهار عندما تميل الشمس إلى الغروب، بيد أن هناك طرقًا أخرى للبحث عن الكمأ إضافة إلى الطريقة الأوروبية في استخدام الكلاب كما سبق ذكره مثل طريقة استخدام العصا وضرب الأرض بطرفها، فإذا ما أحسست بتطبل في قشرة التربة، فذلك يعني عادة وجود الكمأ بين ثنايا الأرض. بيد أن هذه الطريقة التي لا يجيدها إلا القليل من كبار السن تتطلب خبرة ودراية، وغالبًا إلى ذكاء لممارستها. أما تلك الكمأة التي تفتق وتشقق قشرة التربة من فوقها فهي التي كمن تناديك لجنيها. ومن الطرق الشائعة تتبع شجيرات الرقروق ليستدل بها على مواقع الفقع.
وقالوا فقع بقرقر أي في أرض مستوية، ويقصد بذلك عند العرب الرجل الذليل، ذلك أن الفقع، خصوصًا في مثل تلك الأرض، يكون عرضة لأن تدوسه الأقدام بقصد أو بغير قصد، كما أنه لا يمتنع على من أراد أن يجتبيه.
طرق لطبخ الفقع وحفظه
ومن أفضل الطرق لطبخ الفقع هي بسلقه لمدة لا تتجاوز 15 دقيقة، مع القليل من الماء والزبدة والبصل، وتتبيل ذلك بالملح والفلفل الأسود. أما عن أفضل الطرق لحفظه، غير طريقة التجفيف، فتتم على النحو التالي: يسلق الفقع بالماء والملح لمدة 5 دقائق تقريبًا، ثم يترك ليبرد بعدها يوضع في أكياس بلاستيك مع ماء السلق، ويخزن في البراد «الفريزر» على ألا تزيد مدة التخزين لأكثر من 6 أشهر.
الفقع في العلم الحديث
بيد أن العلم الحديث، والذي هو غالبًا لا يتعارض مع آيات القرآن والأحاديث النبوية بل يأتي موافقًا لهما كما أثبت ذلك الكثير من العلماء، وعلى رأسهم العالم والمفكر الفرنسي الكبير «موريس بوكاي»، أثبت بما لا يقبل الشك أن الفقع أو الكمأ يعد من أفضل الأغذية التي وهبها الله للإنسان، حيث تتوافر فيه كميات لا بأس بها من المعادن كالفسفور، والصوديوم، والكالسيوم، والبوتاسيوم، إضافة إلى النيتروجين، والكربون، والأكسجين، والهيدروجين. كما أنه غني بفيتامين «ب» الذي يعد من أهم الفيتامينات. كما تتوافر فيه نسبة جيدة من البروتين بأحماضه الأمينية بنسب تتراوح ما بين 7.5% إلى 9% ودهون بنسبة 0.5% إلى 1%، وكاربوهدرايت «سكريات ونشويات » بنسبة8.5% إلى13%، و75% تقريبًا ماء بتوازن مدهش، علاوة على ما للفقع من قيمة في نفوس أهل الجزيرة العربية مهد الحضارات الإنسانية والرسالات السماوية، ولا تزال البحوث والتجارب العلمية تجرى على هذه النبتة العظيمة لتكشف لنا المزيد من أسرارها، وإزاحة الكثير من الغموض الذي يكتنفها.
ولا يزال العلم عاجزًا عن استزراع هذه النبتة رغم المحاولات العديدة التي أجريت هنا وهناك. كما أن الفقع الزراعي ليس له وجود البتة وإنما المقصود به الفقع الذي ينمو تحت الراشات المحورية. وتتم هذه الطريقة بمحاكاة الطبيعة، وذلك برش الأماكن التي يتوافر فيها البوغ ونباتات الرقروق بالمياه في بداية الموسم أواخر شهر أكتوبر، ثم يكرر الرش لمرات عدة فينتج عن ذلك ظهور الفقع الزبيدي بكميات غير تجارية.