بين الأصالة والحداثة
سائحون عن بُعْد
فنادق تمد أبسطة التاريخ لزائريها، وأخرى تغويهم ببريقها الجديد.
التفاف جماعة من الشبان والفتيات الغربيين افترشوا أحد أرصفة شوارع العاصمة المصرية القاهرة حول مائدة من ورق الجرائد، عامرة بأطباق الفول والفلافل، وصنوف المخللات، يلتهمون منها بشهية مفتوحة، ويتجاذبون أطراف الكلام والضحكات، كان المشهد لافتاً للمارة. ومن غير المستبعد أن يكون كثيرون منهم فكروا: ما المتعة التي يجدها هؤلاء الشبان والفتيات الذين تبدو عليهم أمارات الثراء في افتراش الرصيف، في الوقت الذي فضل فيه سائحون آخرون غربيون أيضًا، الاكتفاء بمراقبة شوارع القاهرة من خلف زجاج الحافلات الحديثة المكيفة، المحاطة بسيارات دوريات الشرطة التي تتولى تأمينها أينما توجهت؟
من اللافت، أيضًا، هؤلاء الشبان الغربيون الذين تجد أحدهم وقد تجشم عناء حمل حقيبته على ظهره والتنقل بها بين مدن العالم، من مدينة إلى مدينة ومن درب إلى درب ومن زقاق إلى زقاق، حتى إن بعضهم يصل إلى عمق الريف في دولة مثل مصر، يبتسم للعابرين، ولا يمانع في قبول دعوة أحدهم إلى كوب من الشاي أو فنجان من القهوة، حيث تكون فرصة سانحة لهذا السائح المولع بالتفاصيل لالتقاط بضع صور مع مضيفه وأصدقائه، وحفنة من أطفال الحي تتهافت على الغريب الأشقر الشعر ذي البشرة البيضاء المائلة للاحمرار.
يحدث هذا في الوقت الذي يزهد فيه بعض السياح العرب من زائري بعض الأقطار العربية في الالتحام مع البيئة المحلية لهذه الأقطار، مفضلين البقاء في هواء مكيفات الفنادق الفخمة التي يقطنون بها، والاكتفاء بنزهة ليلية قصيرة قبل الركون إلى طاولة في أحد الفنادق العائمة، أو دور السينما، أو البواخر النهرية أو اليخوت.
ومع اشتراط هؤلاء أن يكون الفندق الذي ينزلون به على أعلى مستوى من الحداثة، بل أن يكون فندقًا ذكيًا، يكونون قد ضيعوا على أنفسهم الفرصة الأخيرة لخوض تجربة سياحية حقيقية، فكأن هؤلاء تجشموا عناء السفر ونفقته لينتقلوا من جدران منازلهم ونواديهم واستراحاتهم في مدنهم في وطنهم الأم، إلى جدران أخرى مماثلة، مع اختلاف الألوان والطرز، وبعض الوجوه التي تقدم لهم الخدمة. لكن يبقى هذا خيارًا لدى قطاع عريض من الباحثين عن الفخامة الذين لم يدفعوا الأموال الطائلة في رحلة سياحة إلا ليحصلوا على أعلى قدر من الشعور بالفخامة والخدمة فئة النجوم الخمسة والسبعة.
في الوقت، أيضًا، الذي ينقب فيه بعض السائحين عن مصيف أو مشتى جديد، مسكونين بهاجس الفخامة والحداثة، يبقى بعضهم هادئًا، حاسمًا أمره بالنسبة إلى رحلته التي قرر سلفًا، وربما منذ أعوام طويلة، أنها لن تكون إلا في فندقه المفضل الذي ألف وجوهه، وراقت له أطباق طعامه المشتهاة وألف غرفه، ونظام الخدمة التي يقدمها. ولعل هذا يفسر حرص ملاك قائمة من الفنادق العالمية على ألا تطول يد التحديث والتطوير أبنية فنادقهم أو نظامها، أو حتى الوجوه التي تقدم الخدمة فيها، إذ يسعى هؤلاء بالحفاظ على تراثهم الفندقي عمارةً وتعاملاً وألفة بين العاملين، الذين يصبحون مع مرور الزمن أسرة، إلى اجتذاب نزلائهم بهذه الروح العريقة الأصيلة للمكان، فكأن نزلاءهم يسكنون إحدى صفحات التاريخ. لذا فليس غريبًا في هذه الفنادق التي فطنت إلى هذه اللمحات النفسية الفارقة بالنسبة إلى السائح، أن تجد النادل يذكرك بموعد قهوتك، أو يلفت انتباهك إلى أن اليوم موعد طبقك المفضل، بل أحيانًا يصعد إليك الطاهي ليطمئن منك شخصيًا إلى أن أطباق اليوم التي أعدها نالت رضاءك، فضلاً عن الألفة التي تشعر بها في المكان، وكل من يذرعون الممرات حولك من عمال الفندق يقدمون لك الابتسامات والتحايا. فمع مرور السنوات تصبح واحدًا من أسرتهم، ينتظرونك من حين للذي يليه، ويعرفون مزاجك وذوقك، ويفكرون طوال الوقت فيما يرضيك ويشعرك بطيب الإقامة.
هكذا تبقى ضريبة الفخامة باهظة، يدفعها الباحثون عنها من السياح، حرمانًا من هذه اللحظات الحميمية الدافئة بين جدران مباني الفنادق القديمة التي وإن افتقرت إلى الحداثة، إلا أنها لم تعدم أناقتها وفخامتها المعتقة بروح الماضي وتقاليده وإرثه العريق، المترعة بجمال لوحات جدرانها وأسقفها وأعمدتها وحدائقها الداخلية والخارجية، وروح القرون الماضية التي تسكن المكان، بينما تتشابه الفنادق الحديثة، بل ربما تتطابق معايير جمالها وتصاميمها، لكنها تبقى في الأخير خيارًا مشروعًا لسائح لا تستهويه كثيرًا اللوحات القديمة، ويفضل الاستمتاع أكثر بالتفاصيل الرقمية التي يثري بها زمن إقامته. كما يفضل بعضهم الذوبان، تمامًا، في عالم المدن التي يذهبون إليها، في الوقت التي يؤثر فيه آخرون المشاهدة من بعيد.