النفط والحلقات المفرغة
أسعار النفط وصادراته، وتنويع مصادر دخل الدول المنتجة، والعلاقة بين أسعار النفط وسعر صرف الدولار، والسياسات المالية والنقدية للدول المستهلكة تسهم جميعًا في صناعة معادلة أسعار النفط وارتفاعها.
د. أنس بن فيصل الحجي
كبير الاقتصاديين، شركة إن جي بي، دالاس، تكساس
هناك العديد من الحلقات المفرغة التي تدعم أسعار النفط فوق 70 دولارًا للبرميل، بغض النظر عن العوامل السياسية والطبيعية التي شهدها العالم مؤخرًا. وسيتم استعراض بعض هذه الحلقات المفرغة في هذا المقال، علمًا بأن كسر هذه الحلقات لا يتم إلا بحصول كساد عالمي، ولا يتوقع حدوث ذلك في المستقبل المنظور.
الحلقة المفرغة الأولى تتمثل في العلاقة بين أسعار النفط وصادرات الدول النفطية. فكلما ارتفعت أسعار النفط ارتفعت إيرادات هذه الدول، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الإنفاق الحكومي، والذي يؤدي بدوره إلى زيادة معدلات النمو الاقتصادي. ونظرًا لتواكب ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي مع طفرة سكانية، فإن استهلاك الطاقة يرتفع بشكل كبير. المشكلة في هذه الدول أن هذه الطاقة تأتي من النفط والغاز فقط، الأمر الذي يسهم في تخفيض صادراتهما. هذا الانخفاض يسهم في رفع أسعار النفط العالمية، والذي يسهم بدوره في رفع إيرادات الدول النفطية، وهكذا دواليك.
الحلقة المفرغة الثانية تتمثل في العلاقة بين أسعار النفط وقيام الدول المنتجة له بتنويع مصادر دخلها. فكلما زاد تنويع الدخل وانخفض الإنفاق في قطاع النفط، تعجز الدول المنتجة للنفط عن مقابلة الزيادة المستمرة في الطلب على النفط، الأمر الذي يرفع أسعاره، وظهر دور النفط كبيرًا في الحسابات القومية، فتلجأ هذه الدول إلى مزيد من التنويع، وهكذا.
هناك تفاصيل كثيرة تتعلق بالحلقتين الأولى والثانية لا مجال لذكرها كلها هنا. منها أن العداء الشديد للنفط في الدول المستهلكة، والذي صاحبه إنفاق حكوماتها مئات المليارات من الدولارات لدعم مصادر طاقة غير اقتصادية مثل الوقود الحيوي والإيثانول، أقنع بعض الدول المنتجة بإنشاء صناعات ضخمة كثيفة الطاقة مثل البتروكيماويات والألومنيوم والفولاذ، وغيرها. وبغض النظر عن مدى جدوى هذه المشاريع إلا أن فكرتها واضحة تمامًا: إذا كانت الدول المستهلكة لا ترغب في شراء النفط أو الغاز في المستقبل، فإنه سيتم تصدير النفط أو الغاز لهم في المستقبل مبطنًا في سلع أخرى. ونظرًا لأن النفط بشكل خاص سيكون رخيصًا جدًا في حالة الاستغناء عنه، فإن المنتجات كثيفة الطاقة ستكون منافسة جدًا، لأن منافسيه في الغرب يستخدمون مصادر الطاقة البديلة عالية التكاليف. المشكلة أن الدول النفطية أنهت جزءًا كبيرًا من هذه المشاريع، وستنهي الباقي قبل عام 2015، في الوقت الذي فشلت فيه السياسات الغربية في إيجاد «الاقتصاد الأخضر» الذي يحاولون عن طريقه التخلي عن النفط. بعبارة أخرى، ستقوم الدول النفطية بتخفيض صادراتها من النفط والغاز في السنوات القادمة، في الوقت الذي سيستمر في الطلب على النفط في الدول المستهلكة في النمو، وهذا سيدعم الأسعار المرتفعة.
نظرًا للنمو الاقتصادي والسكاني في الدول النفطية، فإن الطلب على الكهرباء زاد بشكل كبير لدرجة تكرر انقطاعها في أشهر الصيف، ليس في الخليج فحسب، وإنما في كل الدول المصدرة للنفط. وتشير البيانات إلى أن العجز في الكهرباء أسهم في زيادة الطلب على النفط في الدول النفطية، الأمر الذي نتج عنه انخفاض صادراتها النفطية، وبالتالي ارتفاع أسعار النفط، ثم زيادة النمو الاقتصادي كما ذكر في الحلقة المفرغة الأولى. وهذا الأمر يسهم بدوره في زيادة العجز في الكهرباء، وهكذا. وتشير الدراسات الميدانية إلى أن العجز في الكهرباء في الدول النفطية يؤدي إلى زيادة استهلاك النفط، وبالتالي انخفاض صافي الصادرات عن طريق ثلاث قنوات:
• في أشهر الصيف الحارقة يتم تحويل النفط الخام من الصادرات إلى محطات الكهرباء حيث يتم حرقه لتوليد الكهرباء بهدف التخفيف من العجز.
• نظرًا للعجز الضخم في الكهرباء في بعض المدن الخليجية فقد تم اللجوء إلى التوليد الخاص، الأمر الذي أدى إلى زيادة استخدام الديزل بكميات كبيرة. وهذه المولدات الخاصة، والتي يبلغ حجم الواحد منها حجم غرفة متوسطة الحجم، تستخدم لتوليد الكهرباء لعمائر ضخمة يتجاوز عدد الشقق فيها 200 شقة، أو في بعض البنوك والمطاعم وغيرها من منشآت القطاع الخاص.
• نظرًا لشيوع انقطاع الكهرباء في الصيف في بعض المدن الخليجية، شهدت هذه المدن ظاهرة جديدة وهي انتقال العائلات من البيوت إلى السيارات للاستفادة من أجهزة التبريد فيها حيث تبقى هذه السيارات تدور في الشوارع حتى تعود الكهرباء. هذه الظاهرة، والتي أصبحت شائعة في بعض المدن الخليجية، أسهمت في زيادة استهلاك البنزين في الصيف.
الحلقة الثالثة تتمثل في العلاقة بين أسعار النفط وسعر صرف الدولار. فمن المعروف أن هناك علاقة عكسية بين قيمة الدولار مقابل العملات العالمية الرئيسة والنفط. فكلما انخفض الدولار، ارتفع سعرالنفط. ويؤدي ارتفاع سعر النفط بدوره إلى زيادة العجز في الميزان التجاري الأمريكي، وهذا يؤدي فورًا إلى تخفيض قيمة الدولار، والذي يؤدي إلى رفع أسعار النفط، وهكذا.
الحلقة الرابعة تتعلق بالعلاقة بين أسعار النفط وردود فعل الدول المستهلكة فيما يتعلق بسياساتها المالية والنقدية. فقد تعلمت الدول المستهلكة دروسًا عدة خلال 40 سنة مضت، الأمر الذي يجعلها تتصرف بسرعة لمجابهةخطر أي زيادة كبيرة في أسعار النفط على الاقتصاد. فردة فعل البنك المركزي على ارتفاع أسعار النفط هي زيادة عرض النقود لتخفيض أسعار الفائدة بهدف احتواء الأثر السلبي لارتفاع أسعار النفط على الاقتصاد. أما ردة فعل حكومات الدول المستهلكة فإنه يتمثل، غالبًا، في زيادة الإنفاق الحكومي بطريقة أو بأخرى، أقلها تقديم مساعدات مادية للفقراء. المشكلة أن تخفيض أسعار الفائدة وزيادة الإنفاق الحكومي يؤديان إلى رفع معدلات النمو الاقتصادي، وهو ما يؤدي بدوره إلى زيادة الطلب على النفط، والذي يسهم في رفع أسعاره، وهكذا.
أهلاً بكم في عالم الحلقات المفرغة... عالم النفط!