نور الدين جيانغ..
خطاط صيني بنكهة عربية إسلامية



اجدة: خيرالله زربان

ظلتالثقافة العربية منذ آماد سحيقة تشكِّل حضورها في المشهد الإنساني، متجاوزة الحدود والجغرافيا، مثبتة وجودها بصور شتى، ومن بين هذه الصور تبرز الفنون العربية عامة، والإسلامية خاصة، حيث استطاعت هذه الفنون أن تنتقل عبر المكان والزمان إلى أصقاع الأرض، لتظهر في أشكال متعددة، وبأنماط ليس من العسير على أي أحد أن يرجعها إلى مصدرها العربي والإسلامي، حيث ظهر فن العمارة الإسلامية الذي له من السمات ما يختلف عن بقية الفنون المعمارية لدى الشعوب الأخرى، وهناك الزخرفة الإسلامية بطابعها المميز الفريد، ثم يأتي الخط العربي بأنواعه المختلفة، ليسجل حضوره في خارطة الفنون الإنسانية، آخذًا بالتطور جيلاً بعد جيل، حتى أصبح الحرف العربي أيقونة جمالية تستدعى حتى في اللوحات التشكيلية، بجانب ما له من ميزات تجعله هدفًا للتطويع الجمالي على صور تختلف شكلاً، ويؤطرها مسمى الخط العربي.

في أقصى شرق الكرة الأرضية وصل الخط العربي مع الإسلام إلى الصين، بكل تاريخها الضارب الجذور في أرض الحضارة، فكان له تفاعله هناك، ولن تجد لصورة هذا التفاعل من يرويها إبداعًا، ويحكيها تقليدًا سوى الفنان الصيني الحاج نور الدين مي قوانق جيانغ، الذي هضم الخط العربي واستوعبه وبرع فيه حتى صار أستاذًا بارزًا مجددًا في الخط العربي.

 

سيرة فنان وريشة

تقول السيرة الذاتية للفنان الصيني الحاج نور الدين إنه ولد عام 1963 في يويتشانغ من مقاطعة شاندونغ الصينية. وفي عام 1997 حصل على إجازة الخط العربي من مصر، وأصبح بذلك أول صيني يكرم بجائزة رفيعة. وفي عام 2000 أسس مبادئ أول منهج تعليمي نظامي لفن الخط العربي في جامعة العلوم الإسلامية بمدينة تشنغتشو في الصين. وفي عام 2005 اقتنى المتحف البريطاني لوحته «أسماء الله الحسنی» وعرضها بشكل دائم في معرض الفن الإسلامي. وتعد هذه المرة الأولی التي تعرض فيها لوحة من هذا النوع مكتوبة بالأسلوب الصيني للخط العربي، وعرضت بشكل دائم في المتحف البريطاني. وفي عام 2009 اختير الحاج نور الدين ضمن أهم 500 شخصية إسلامية لها تأثيرها على مستوى العالم. كما جمعت أعماله وعرضت في العديد من المعارض والمتاحف حول العالم غالبًا كأول فنان صيني عربي. ومن ضمن هذه المتاحف المتحف البريطاني، ومتحف أصلان في سان فرانسيسكو، والمتحف الوطني في سكوتلاندا، ومتحف الفن في جامعة هارفارد.

 

براعة استثنائية

يمتلك الحاج نور الدين براعة استثنائية وعبقرية فذة، مع قابلية فريدة خاصة من خلال لقائه المشاهدين، وحفز ذلك الكثير من المؤسسات الكبرى حول العالم لدعوته لإلقاء المحاضرات وتنفيذ الورش الفنية، ومنها معهد الزيتونة في كاليفورنيا، وجامعات هارفرد، وكامبريدج، وكليفورنيا، وبريكلي وبوسطن، ومركز قطر الثقافي الإسلامي «فنار» وإلخ. وأقام عدة معارض في العديد من البلدان مثل بريطانيا وكندا وأيرلندا وأستراليا وسنغافورة والإمارات العربية المتحدة وقطر وموريشيوس والكويت والجزائر ومصر وتركيا وإيطاليا.. إلخ.

 

فنان رسالي

الحاج نور الدين قدم خدمة كبيرة للفن الإسلامي من خلال التعريف به وطرح أفكاره للمشاهد المعاصر بسلاسة. يتصف عمله بالتقنية الخطية التي دمجت، بشكل فريد، الفن الصيني بالفن العربي. يقول إنه «مستعد دومًا لرفد العالم بمحاضراته وأعماله، وورشه الفنية، من قناعته الراسخة بأن الجمال المتفرد للأعمال الخطية العربية التي ابتدعها الخطاطون الصينيون المسلمون من أسلافه تمثل اتحادًا جماليًّا بين الفنون الصينية والإسلامية، وأنها خلاصة الحكمة المشتركة بين آبائه المسلمين.

والقناعة هذه تقوم على فلسفته المدركة لأهمية الفنون في حياة الناس، ما ولَّد لديه، بوصفه خطاطًا صينيًا مسلمًا، إحساسًا عميقًا بمسؤولية ترويج هذا الفن المركب من ميراثنا الثقافي النفيس، ورأى أن ذلك سيمكِّن العائلات الإسلامية من امتلاك أعمال فنية ذات جاذبية عالية، ويمكِّن آخرين من إدراك هذا الكنز التراثي الغني والقيم وتجربته، كما يعمق فهمهم للإسلام.

بصمة صينية على الخط العربي

بعد انتشار الإسلام في الصين وضع الصينيون المسلمون بصمتهم الشخصية من الخط الصيني على الخط العربي التقليدي. ويمثل الخط العربي التقليدي في الصين جوهر الأداء الفني في أجيال من الخطاطين، واندماجًا ثقافيًا فريدًا بين الثقافة الصينية والفن الإسلامي. وهذه المقولة أكدتها تجربة الفنان الحاج مي قوانج جيانغ مع فن الخط العربي.

 

الكتابة بفرشاة البامبو وقطعة

الخشب والعظم

إن الأدوات التي تستخدم في إبداع الخط العربي التقليدي في الصين تشكل أساسًا لتصنيف التقنيتين الكبيرتين في الكتابة التقليدية أولاهما حسب الحاج قوانق: «الكتابة تتم بالفرشاة الصلبة، حيث يستخدم الخطاط قطعة من البامبو قلمًا، أو قطعة خشبية، أو يكتب بقطعة من العظم، وفي الطريقة الثانية تستخدم الفرشاة اللينة حيث يستخدم الخطاط فرشاة من الصوف أو الشعر، أو الألياف النباتية، لإنجاز كتابته.

 

ويمكن تقسيم الكتابة العربية الصينية إلى ثلاث مدارس، طبقًا للمنطقة الجغرافية: الشمالية، والجنوبية والغربية. ويمكن تصنيف كل من هذه المدارس الثلاث بحسب الخط وكيف يبدو.

تشمل هذه الخطوط «الأنواع» تقليد الخان الإمبراطوري، خط الشرف «بانج شو» الخط الطوماري «تو ما ري» رسم الحروف القرآنية، والخط العربي المقوس «للكتابة على الحروف المقوسة». إن آليات التبادل الثقافي بين الثقافتين العربية والصينية هي إعادة الكتابة. وقد انضم إلى قائمة الخطوط الصينية أخيرًا خطَّا الديواني والثلث، وصارت لهما شعبية لافتة.

 

استعارة مفاهيم الخط العربي الصيني من الشعر

يبين الحاج قوانق أن الخط العربي الصيني استعار بعض مفاهيمه من الشعر الصيني. كما أن تقنيات الإنتاج الفني الصيني أثرت كذلك في الخط العربي الصيني. ومن الفن الصيني أتت لمسة المبالغة البصرية أو المبالغة الفنية، وتقسيم سطح العمل، أو المساحة الخطية، وتقنية التقويس «الكتابة المقوسة»، والتقابل «في المساحات الإيجابية والسلبية» التي تسمى «خطأ صواب» وأسلوب التسميك والتنحيف في الكتابة، وأسلوب الاقتباس الخلاق، وأسلوب التظليل البُعدي، وأسلوب التغطية الجزئية. وبالحديث عن الشكل يوضح قوانق: «الخطان الصيني والعربي يستخدمان أشكال المستطيل والمربع والدائرة والمعين والمثلث والمضلع والزهرة والثمرة والميدالية ضمن مفرداتهما البصرية. ويمضي قائلاً: «الخط العربي التقليدي يمثل بحق الفنون الإسلامية في الصين. فالأعمال متوازنة، على الرغم من وجود بصمات شخصية لكل فنان بنسب متفاوتة، وقناعته تتمثل في أن العمل الفني ينبغي أن يتم مرة واحدة للمحافظة على وضوحه وإيقاعاته والإحساس بأبعاده الثلاثة. لأن هناك روحانية خاصة في هذا النوع من الفنون.

هناك جماليات عدة للخط العربي في الصين يعددها الحاج نور الدين مي قوانق جيانغ: «إنه متنوع، ويستدعي دائمًا مرأى الخيول العاديات، والقمم المهيبة، والجداول المنحدرة، مع قيم جمالية ونداءات فنية خفية. إنه تعبير موسيقي دون نغم، صورة منظورة للأحاسيس، إنها سطور رقيقة طبيعية ورقيقة ينتجها الخيال الخصب. حقًّا إنها ميراث العطاء الإسلامي في الصين، وهو كنز ثقافي وفني من كنوز الدنيا.