ذي عين قرية نبع ماؤها من عصا

اكتشافات «المقر » الأثرية تعيد فتح ملف نشوء الحضارة.

 جدة: عبدالله الزهران
 

تمثل الآثار أحد المصادر المهمة التي يستقي منها المؤرخون افتراضاتهم، ويبنون عليها كتابة التاريخ، وعبر هذه الفرضية ترسخت كثير من المعلومات التاريخية على أنها القول الثابت بالرجحان، والمعضد بالشواهد، وتكتسب أهمية التسجيل التاريخي ثقتها المطلقة كلما كانت الإثباتات والشواهد غير مطعون في صحتها، أو مشكوك في نسبتها، ولهذا ظل الباحثون والمؤرخون في ركض دائم، وبحث مستمر للكشف عن الآثار، والتنقيب عنها بوصفها السجل الحضاري المتوافر لفهم الماضي، وفك رموزه وطلاسمه، وصولاً إلى الحقيقة الثابتة، أو ما يقرّب منها بوجه لا يحتمل وجهًا آخر. ومتى ما وقف العلماء على أثر يعارض الرواية التاريخية المسجلة، فإن الكشف عنه وإعلانه على الملأ يصبح أمرًا ضروريًا ولازمًا لتصحيح مسار الرواية التاريخية المكتوبة.

ومن هذا المنطلق تولي المملكة عناية كبيرة بالآثار ممثلة في الهيئة العامة للسياحة والآثار، والتي أعلنت، مؤخرًا، عن كشوفات أثرية في غاية الأهمية بموقع المقر، فبادرت إلى الإعلان عن هذه الكشوفات التي أثبتت حقائق تاريخية جديدة بالدليل القاطع، ونسفت بذلك بعض الافتراضات التي دوّنت سلفًا في أضابير التاريخ فيما يتعلّق بريادة العرب لاستئناس الخيل، وما كان لهذا الجهد أن يرى النور، لولا الجهود المبذولة من قبل القائمين على أمر الآثار في بلادنا.

يقع «المقر» الذي شهد الكشوفات الأثرية الحديثة في منطقة متوسطة بين محافظتي تثليث ووادي الدواسر، ويبعد عن مركز القيرة الذي يتبع محافظة تثليث قرابة 40 كم. تتميز منطقة الموقع بتضاريس خاصة حيث تمثل نقطة التقاء هضبة نجد بأطراف المرتفعات الشرقية، وتنتشر فيها تكوينات جبلية قليلة الارتفاع تتخللها الأودية. ويخترق الموقع واديًا كان في الأصل نهرًا جاريًا ينحدر باتجاه الغرب مشكلاً شلالاً كبيرًا يصب في الأراضي المنخفضة الواقعة إلى الغرب من الموقع ويوجد الموقع على ضفتي هذا النهر.

إنسان ما قبل التصحر

هذه المواصفات الطبيعية المهمة تؤكد أن الإنسان عاش في هذا المكان قبل التصحر الأخير، أو خلال فترة التحولات المناخية التي انتهت بانتشار التصحر في المنطقة، ولعل تلك التحولات هي سبب استقرار الإنسان في هذا المكان. كما مارس سكانه الزراعة وتربية الحيوانات، وتنتشر على سطحه مواد أثرية متنوعة من الأدوات الحجرية التي تشمل رؤوس السهام والمكاشط دقيقة الصنع من الأنواع التي استخدمها الإنسان في فترة العصر الحجري الحديث.

تحليل عينات الموقع

كل هذه الشواهد الأثرية كان من الطبيعي أن تكون هدفًا للبحث والتنقيب، حيث باشرت الهيئة العامة للسياحة والآثار استكشاف الموقع والبحث فيه في شهر ربيع الآخر 1431هـ/ مارس 2010م. وعثر الفريق الاستكشافي على تماثيل لحيوانات متعددة استأنسها الإنسان الذي عاش في هذا الموقع، واستخدم بعضها الآخر في نشاطاته وحياته اليومية، ومن هذه الحيوانات: الضأن والماعز والنعام، والكلب السلوقي والصقر، والسمك والخيل.

آثار تعود للعصر الحجري

لقد أعطت الموجودات الأثرية بالموقع دلالة واضحة على قدمها، فكان تقديرها الأولي أنها تعود إلى فترة العصر الحجري الحديث، وهي الفترة الأخيرة التي عاش فيها الإنسان في هذا المكان، بمقاربة زمنية تعود إلى «9000» سنة قبل الوقت الحاضر، وإليها يعود تاريخ الأدوات الحجرية التي تم التقاطها من سطح الموقع.

لم تقف جهود الهيئة العامة للسياحة والآثار عند هذا التقدير الأولي الافتراضي، كونه لن يكون ذا جدوى تاريخية ما لم يثبت بالبراهين والأدلة الحديثة، التي في مكنتها تحقيق ذلك، وهو عين ما ذهبت إليه الهيئة، حيث تم أخذ أربع عينات من المواد العضوية المحروقة من طبقات المواقع الأثرية وإرسالها إلى الولايات المتحدة لتحليلها في معامل خاصة بتحليل الكربون 14 لمعرفة تاريخ الموقع، وجاءت تواريخ العينات مؤكدة نسبة هذه الآثار إلى بداية الألف التاسع قبل الوقت الحاضر. مع الإشارة إلى أنه توجد بالقرب من الموقع مواقع أخرى أقدم تاريخًا يمكن نسبتها إلى العصر الحجري الوسيط.

خيول ما قبل التاريخ هنا

يعد وجود تماثيل كبيرة الحجم للخيل في هذا الموقع مقترنة بمواد أثرية من العصر الحجري الحديث، يرجع تاريخها إلى 9.000 سنة قبل الوقت الراهن، يعد اكتشافًا أثريًا مهمًا على المستوى العالمي، حيث إن آخر الدراسات حول استئناس الخيل تشير إلى حدوثه لأول مرة في أواسط آسيا «كازاخستان» منذ 5500 سنة قبل الوقت الحاضر، وهذا الاكتشاف يؤكد أن استئناس الخيل تم في الأراضي السعودية في قلب الجزيرة العربية قبل هذا التاريخ بزمن طويل. وما يعضد من أهمية هذه الآثار المكتشفة أن الخيل التي عثر عليها في موقع «المقر» يقارب طول أحد تماثيلها 100 سم، وهو يمثل الرقبة والصدر، ولم يعثر من قبل على تماثيل حيوانات بهذا الحجم في أي موقع آخر في العالم من هذه الفترة نفسها، وما عثر عليه في تركيا والأردن وسوريا لا يعدو أن يكون تماثيل صغيرة الحجم ومن فترة متأخرة عن هذا التاريخ وليست للخيل.

يحمل تمثال الخيل الكبير الذي وجد بالموقع ملامح الخيل العربية الأصيلة، ويبدو ذلك واضحًا في طول الرقبة وشكل الرأس، ويوجد على رأس تمثال الخيل سابق الذكر شكل واضح للجام يلتف على رأس الخيل، ما يشكل دليلاً قاطعًا على استئناس الخيل من قبل سكان هذا الموقع في تلك الفترة المبكرة.

وقد صنعت هذا التماثيل من نوع الصخر المتوافر بالموقع والذي يرى في أماكن عدة بالمكان في الوقت الحاضر، ويبدو أن هذه التماثيل كانت مثبتة في بناء يتوسط الموقع على الضفة الجنوبية للنهر قبل مصبه في الشلال وربما كان لهذا البناء دور رئيس في الحياة الاجتماعية لسكان الموقع.

ضرورة إعادة قراءة نشوء الحضارات

إن هذه الاكتشافات الأثرية التي أصبحت موثقة عالميًا، من شأنها أن تعيد فتح ملف مفهوم نشوء الحضارات في كتاب التاريخ الإنساني، بخاصة أن المنطقة ما زالت غنية بآثار أكثر قدمًا من التي أعلن عنها، الأمر الذي ربما يخبئ مزيدًا من المفاجآت التي قد تغيِّر ما كان سائدًا ومسجلاً في سطور الحضارة والتاريخ، كما أنها ستشحذ الهمم لمزيد من الكشوفات في مناطق أثرية أخرى، خصوصًا أن الجزيرة العربية عمومًا، والمملكة العربية السعودية بصفة خاصة ما زالت تخبئ في ذاكرتها المطمورة العديد من الآثار التي تحتاج إلى الجهد للكشف عنها، واستقصاء مظانها، في زمن أصبحت فيه الهوية الحضارية أمرًا مهمًا وضروريًا لتلافي خطر الذوبان، والتلاشي في زمن البوابات الفضائية المفتوحة دون قيود أو حدود.