البحث عن الحقيقة الكبرى
اشتغل «فايس» بالبحث عن الحقيقة الكبرى،
وكان دائمًا مهمومًا ومشغولاً ومدهوشًا في
الوقت نفسه بظاهرة الفجوة الكبيرة بين
واقع المسلمين المتأزم وحقائق دينهم
الإسلامي المشعة. حاور «فايس» بعض
المسلمين منافحًا عن الإسلام ومحملاً
المسلمين تبعة تخلفهم عن المشهد الحضاري،
لأنهم تخلفوا عن الإسلام، وجاء إسلام محمد
أسد ردًا حاسمًا على اليأس والضياع
وإعلانًا مقنعًا بقدرة الإسلام على
استقطاب الحيارى الذين يبحثون عن الحقيقة،
يقول د.عبدالوهاب عزام عن إسلام فايس: «استجابة
نفس طيبة لمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب
وإعجاب قلب كبير بالفطرة السليمة وإدراك
عقل منير للحق والخير والجمال».
حكايتي مع الإسلام
يقول «فايس» في مقدمة كتابه «الطريق إلى
مكة» إن ما يرويه في هذا المؤلف لا يعد
سيرة ذاتية لامرئ يشعر بالفخر إزاء ما قام
به في الحياة العامة، كما لا يعد رواية
لمغامرات خاضها على الرغم من أنه لم يصادف
مغامرات عجيبة، إلا أنها لم تمثل له أكثر
من مجرد أحداث مرافقة ومصاحبة لما كان
يدور داخله، ويضيف: «وما عدا كل ذلك لا
يعد قصة حياة رجل يفتش بقصد ونية عن إيمان
عميق أو عقيدة بذاتها، فذلك الإيمان حل
عليَّ عبر رحلة السنين دون أن أسعى إليه.
حكايتي ببساطة هي حكاية اكتشاف رجل أوروبي
للإسلام واندماجه في المجتمع الإسلامي».
مع الملك عبدالعزيز
يستخدم محمد أسد أسلوب «الفلاش باك» في
تسطير رحلته إلى مكة، بحيث يقدم أحداثًا
ويؤخر أخرى، في أسلوب راق ورائع، وينحو
إلى طرح المفاهيم الإيمانية وإيصال النبع
الصافي للإسلام الذي توصل إليه والرحلة
إلى مكة التي قام بها. كان أول لقاء له
بالملك عبدالعزيز آل سعود، طيب الله ثراه،
في مكة المكرمة سنة 1345هـ «بدايات عام
1927م»، كان ذلك بعد اعتناقه الإسلام بعدة
أشهر، وكان، أيضًا، بعد وفاة زوجته
المفاجئة، إذ كانت بصحبته عند أول حج له،
وأدت تلك الوفاة إلى إحساسه بالمرارة
واعتزل الناس لفترة طويلة، وعلى مدى
أسابيع طويلة لم يقم بزيارة مجاملة للقصر،
ثم قام ذات يوم بزيارة أحد ضيوف الملك
عبدالعزيز من الأجانب وهو الحاج «أجوس
سالم» من مسلمي إندونيسيا، يقول «فايس»:
قيل لي في أثناء تلك الزيارة إنه بناء على
أمر الملك تم وضع اسمي على قائمة ضيوفه.
ويبدو أنه قد وصل إلى علمه سبب تخلفي عن
الحضور إلى قصره قبل ذلك، وأنه تقبل ذلك
بصمت الفاهم لما أعانيه، وهكذا كنت ضيفًا
لم يتسن له أن يرى مضيفه من قبل. توجَّه
فايس في الموعد المحدد إلى بيت جميل في
جنوب مكة المكرمة، يقع على حافة صخرية
تشرف على بداية الطريق المتجه جنوبًا، إلى
اليمن من شرفات المنزل الرحب تبدو أجزاء
كبيرة من المدينة، مآذن الحرم، آلاف من
البيوت تبدو كمكعبات بيضاء وأسوار شرفات
أسطحها مشيدة من أحجار ملونة، خلف البيوت
تبدو تلال الصحراء الساكنة متوهجة كمعادن
منصهرة.
الملك فيصل مهابة وجلال
يقول «فايس» وهو يسهب في سرد تفاصيل لقائه
بالملك عبدالعزيز: ربما كنت سأستمر في
تأجيل زيارتي لقصر الملك لو لم أكن قد
التقيت الأمير فيصل مصادفة، والأمير فيصل
هو الابن الثاني للملك عبدالعزيز، التقيته
في مكتبة الحرم الواقعة تحت العقود
المحيطة بها، كنت أشعر بمتعة الجلوس في
تلك القاعة الطويلة التي تصطف على جدرانها
خزائن المخطوطات العربية القديمة، وكان
الهدوء المخيم في داخلها وضوؤها الخافت
يبثان في نفسي مشاعر من الدعة. في أحد
الأيام كسر الصمت المخيف حفيف ملابس وهمس
رجال تسبقهم مجموعة من الحراس، كان الأمير
فيصل في مروره المعتاد من خلال المكتبة
إلى الحرم، كان رجلاً طويلاً ونحيلاً
وعليه سيماء الجلال والمهابة التي تتجاوز
عمره البالغ اثنين وعشرين عامًا.
ويضيف «فايس»: «ومع صغر سنه إلا أنه كان
حاكمًا للحجاز ونائبًا عن الملك بعد أن
دخلها الملك وأخضعها لحكمه قبل ذلك بعامين،
كان سعود، ابن الملك الأكبر وولي العهد،
نائبًا للملك على نجد، وكان الملك يقضي
نصف العام في مكة المكرمة، عاصمة الحجاز
والنصف الآخر في الرياض عاصمة نجد.
قام
أمين المكتبة، وهو أحد باحثي مكة المكرمة
من الشباب، ربطتني به صداقة حينًا من
الزمن، بتقديمي إلى الأمير فيصل، فصافحني،
وحين انحنيت أمامه مد يده ورفع هامتي بلطف
وابتسامة دافئة تضيء وجهه قائلاً: «نحن
أهل نجد لا نحب أن ينحني رجل أمام رجل آخر،
لا ينحني الرجل لغير الله» بدأ عطوفًا
رقيق الحاشية، حالمًا مع بعض التحفظ
والحياء.
يقول «فايس» إنه بعد أن تبادل الحديث مع
الأمير فيصل، طيب الله ثراه، شعر برغبة
عميقة في لقاء من أنجب الأمير، وباح له
برغبته في ذلك فقال له: «سيسر الملك لقاؤك،
لماذا تتجنب لقاءه حتى الآن».
«فايس» يلتقي الملك عبدالعزيز
نهض
الملك عبدالعزيز فاردًا ذراعية في ترحيب
حين دخل «فايس» عليه قائلاً: أهلاً وسهلاً،
ويصف محمد أسد الملك عبدالعزيز بقوله: «أتيحت
لي الفرصة لأتأمله عن كثب، كان متناسق
الأعضاء على الرغم من ضخامته، كانت قامته
لا تقل عن 6 أقدام ونصف القدم، ولا يبدو
طول قامته إلا حين ينهض، كان وجهه، الذي
تحيط به كوفية ذات مربعات تقليدية بيضاء
وحمراء، يعلوها عقال منسوج من خيوط ذهبية،
يحمل أمارات الرجولة والقوة، وكانت له
لحية وشارب محفوفان على طريقة أهل نجد،
وكان عريض الجبهة، ذا أنف مستقيم طويل،
أما فمه فقد كان يشيء بالرقة لا بالتهاون،
وحين يتحدث يبدو وجهه مفعمًا بحيوية فائقة،
أما في أوقات صمته فيظهر على وجهه حزن
دفين كأنما انسحب بأفكاره إلى عالم داخلي
فريد، وكانت عيناه العميقتان تعبران عن
ذلك الانطباع.
«فايس» إلى نجد بإذن عبدالعزيز
يروي محمد أسد أنه كان يريد القيام بزيارة
إلى نجد التي لم يكن يسمح للأجانب في ذلك
الوقت بزيارتها، وقبل أن يخبر الملك
عبدالعزيز فاجأه، طيب الله ثراه، بدعوته
لمرافقته لزيارة الرياض انطلاقًا من مكة
المكرمة بالسيارة، لكن «فايس» قال للملك
إنه يريد السفر بالجمال حتى يرى كل
المناطق، ضحك الملك عبدالعزيز قائلاً:
ألديك هذا الشوق إلى مشاهدة عيون أبناء
شعبي من البدو؟ لا بد أن أحذرك مقدمًا،
فالبدو أناس بسطاء فطريون، ونجد أرض
صحراوية بلا جمال يميزها عن غيرها، ورحل
الجمل يابس وصلب والطعام شحيح خلال الرحلة،
ولن تجد إلا الأرز والتمر، وقد تجد اللحم
في أحيان نادرة، ولكن إن شئت واستقر عزمك
على ذلك فسأتركك تسافر، وأتمنى ألا يعتريك
الندم على معرفة البدو، إنهم فقراء إلا أن
قلوبهم مملوءة بالإخلاص.
الطريق إلى الرياض
انطلق محمد أسد من مكة المكرمة بعد أن
منحه الملك عبدالعزيز جملين وزادًا للطريق
وخيمة، وأمر بأن يصحبه دليل ليرشده إلى
الطريق. وصل «فايس» الرياض بعد شهرين من
مغادرته مكة، وكانت تلك هي الرحلة الأولى
له عبر الأرجاء الداخلية للجزيرة العربية،
المرة الأولى التي تتبعها عدة مرات ستأتي
لاحقًا بعد ذلك، أما الشهور التي طلب منه
الملك أن يقضيها معه بالرياض فقد امتدت
إلى أعوام قضاها في أغلب أرجاء المملكة
مرتحلاً من مكان إلى مكان، ولم يعد الرحل
يابسًا ولا صلبًا بأي حال حسب تعبير «فايس».
مكة بدلاً عن تيماء
كان
محمد أسد يخطط لزيارة تيماء مع مرافقه زيد،
لكنه عدل عن ذلك الأمر ليتجه إلى مكة
المكرمة. ويصف محمد أسد أسوار المدينة
المنورة التي وصلها أولاً بقوله: «تقف
أمامي مباشرة أسوار المدينة الرمادية
القديمة المشيدة من الأحجار والطوب «اللبن»
وعلى بعد تبدو المآذن الخمس لمسجد الرسول،
صلى الله عليه وسلم، عالية ورشيقة، وخلف
المدينة تبدو الصخور الجرداء لجبل أحد
الذي يبدو كستارة خلفية للمآذن البيضاء
لمسجد الرسول، صلى الله عليه وسلم، وتيجان
أعراش النخيل وكثير من منازل المدينة
المنورة.
ويصف فايس المشهد لحظة دخوله للمدينة
المنورة بقوله: «دخلت المدينة المنورة
وعبرت ميدان المناخة الواسع إلى شوارع
المدينة الكبيرة، لقد جلس صرافو العملات
يرنون بقطع العملات الفضية والذهبية، دخلت
السوق الذي لا يزيد عرضه على اثنتي عشرة
قدمًا، إلا أنه مزدحم بمحال تموج بالحيوية
ونبض الحياة.
في المكتبة
زار
المؤلف في أثناء وجوده في المدينة المنورة
مكتبتها التي تضم أندر الكتب والمخطوطات
القديمة التي أفرزتها عظمة الحضارة
الإسلامية، ويشرد ذهن المؤلف في أسباب
اختلاف الحال بين مسلمي الأمس... لكنه سمع
صوتًا يقول له: ماذا يشغلك يا بني؟ ولمَ
نظرة المرارة تلك المرسومة على وجهك؟
يقول المؤلف: استدرت باتجاه الصوت، رأيت
المتحدث جالسًا على بساط، وعلى ركبته مجلد
ضخم، كان صديقي القديم الشيخ عبدالله بن
بليهد، كان من أعظم علماء نجد وواحدًا من
أعظم العقول التي عرفتها في البلاد
الإسلامية.
ويترك «فايس» المدينة المنورة ليصل إلى
مكة المكرمة حيث يصف شخوصه أمام الكعبة
بأجمل وصف.