معركة من نوع آخر
يشن مجتمع الصم والبكم،
دفاعًا عن اللغة الإيمائية،
هجومًا مضادًا على ما توصلت
إليه آخر الدراسات الطبية من
حقائق تظهر أن زرع جهاز سمعي
صغير في آذان المواليد الصم
يساعدهم على تطوير مهاراتهم
النطقية بشكل شبه طبيعي.
ولما كان بعضهم يظن أن هذه الاكتشافات العلمية قد تكون مصدر سعادة لذوي الصم وللخبراء الطبيين في هذا المجال الذين يشعرون بالزهو لما حققوه، إلا أن الواقع كان مغايرًا تمامًا، إذ إنها لم تحظ بإعجاب مجتمع الصم والبكم الذي قال إنه من غير الأخلاقي إلغاء ثقافة الصم برمتها وإخضاع المواليد الجدد لعملية زرع أجهزة سمعية مباشرة على العصب السمعي لاستثارته.
في المقابل، تتزايد احتمالات إصابة أي فرد من مجتمعنا بالصمم بأثر من الأصوات العالية والمنفرة، التي وإن كنا نحسبها عادية إلا أنها قد تؤدي فعلاً إلى وضع حد لحاسة السمع. وفي هذه الحال يتساءل مجتمع الصم والبكم، ما إذا كان يتوجب على من يصيبه الصمم أن يحاول الانخراط في ثقافتهم، أم أن يضيع في ثقافته السابقة التي فقدها ولم يعد بإمكانه التماهي معها، وإن ساعدته الأجهزة الإلكترونية المتطورة؟
يتمسكمجتمع الصم والبُكم بلغتهم الإيمائية المختلفة عن بقية لغات العالم، إذ أنها كسائر اللغات تأتي بثقافة أخرى وعادات مختلفة، مشيرين إلى أن «اللغة المنطوقة هي عبارة عن حروف وأصوات فيما لغتهم إشارات ورموز، وهذا لا يجعلها أقل قيمة عن بقية اللغات بل في مصافّها، تمامًا كما أن للغات المسمارية والهيروغليفية قيمتها». من جهة أخرى، يلفت بعض مجتمع الصم إلى «أن إخضاع المواليد إلى عمليات جراحية لمنحهم حاسة السمع، غير مبرر وقد يهدد حياتهم، فهم لا يعانون أي خلل أو إعاقة غير مقبولة ليتحملوا هكذا أخطار، فالصمم لم يكن يومًا أمرًا معيبًا، أو داء رهيبًا».
ابتكار قديم جديد
منذ 20 عامًا توصل الأطباء إلى ابتكار أجهزة سمعية صغيرة لزرعها في قوقعة الآذان، ووصلها بالسمع العصبي، ما يحفز على السمع، ولكن ابتكارهم غالبًا ما اصطدم بحائط مسدود لأنه عُدَّ تهديدًا مباشرًا لثقافة الصم. فجرى الاعتراض عليه بشدة، لأنه أثار قلقًا متزايدًا لدى مجتمع الصم الذي برر مخاوفه بالقول: «إذا تم زرع هذه الأجهزة في آذان المواليد الصم ولم تلائمهم فهم عندئذ لن يتمكنوا من تعلم لغة الصم الإيمائية أبدًا، وسيبدون بالتالي كالغراب الذي أراد أن يقلد مشية الطاووس فلم يتقنها، ولكنه نسي أيضًا أصول مشيته فمضى يمشي كالبهلوان!، وعندئذ لن يجدوا أي وسيلة للتواصل مع المجتمع من حولهم».
دراسات مشجعة
في الآونة الأخيرة، تمكن فريق طبي أسترالي، من جامعة ميلبورن، من التخفيف من هذه المخاوف قليلاً بعد أن أجرى دراسة شملت 11 مولودًا خضعوا لعملية زرع أجهزة سمعية، وأثبت أن غالبية هؤلاء المواليد الذين وُلدوا وهم يعانون الصمم، قد تمكنوا من إتقان اللغة بشكل مميز من غير أي تشويه نطقي، بالرغم من أن بعضهم واجه صعوبة في ذلك.
ولفت الأطباء الأستراليون أنهم كلما بكروا في زرع هذه الأجهزة حصلوا على نتائج أفضل. فإذا زُرعت الأجهزة بعد الولادة بأشهر سيطور الطفل بعد ذلك مهاراته اللغوية بشكل أفضل مما لو خضع للجراحة في عمر عام أو عامين.
فضلاً عن ذلك، فقد أشار الأطباء الأستراليون إلى أن فترة الخضوع للجراحة تمتد منذ الولادة حتى عمر خمس سنوات.
وحسبما يؤكد البروفسور «ريتشارد دويل»، مدير الفريق الأسترالي، فإن الأطفال بعد زرع الجهاز قد لا يتمتعون بسمع مثالي، ولكنهم سيملكون القدرة الكاملة على النطق دون أي إعاقة. وهذه هي بالتحديد النقطة التي أعادت المخاوف والقلق من عمليات «السمع الصناعي» كما يسميها بعضهم، خصوصًا أن الفريق الطبي لم ينكر إمكانية عدم نجاح تقنيته في بعض الحالات.
نتائج مؤكدة
إلى ذلك، ظهرت دراسات جديدة مختلفة أثبتت نتائج الدراسة الأسترالية ومنها دراسة «آن غيرز» من جامعة تكساس في دالاس، الولايات المتحدة، التي عادت ووافقت على أن مجتمع الصم وثقافته قد يكونان مهددَين بخطر إزالتهما أمام هذه الأجهزة، ولكنها تشير في مكان آخر إلى أنه «من حق الأطفال الصم أن يدخلوا إلى العالم الناطق، وأن يتعلموا في المدارس، ويتزوجوا، ويعملوا، وأن يكونوا جزءًا من مجتمع ذويهم الذين يتمتعون بحاسة السمع في الكثير من الحالات».
... وللأصحاء أيضًا
على صعيد آخر، أظهرت الابتكارات الطبية قدرتها على مساعدة الناضجين من الصم الذين تعرضوا لحادث ما أفقدهم سمعهم، أو المصابين بالـ«هايبراكوسيس» عن الحساسية المفرطة تجاه الأصوات العادية، وهو مرض سمعي فجائي يصيب الأشخاص الذين يتعرضون دومًا للأصوات المرتفعة. ويبدأ هذا المرض عندما يشعر هؤلاء بأن العالم من حولهم يصدر أصواتًا مرتفعة جدًا لا يستطيعون احتمالها. رنين الهاتف، هطول الأمطار، وقع الأقدام على الأرض.. وإلى ما هنالك من أصوات اعتادوا سماعها، تصبح فجأة عالية وتكاد تصمهم تمامًا، وبالفعل فإن هذا ما تفعله مع الوقت.
معاناة متزايدة
ولا يملك مرضى الـ«هايبراكوسيس» إمكانية خارقة لسماع الأصوات أكثر من غيرهم كـ«سوبرمان»، بل إنهم يتلقون الأصوات بمعدل أعلى، حتى إنهم في بعض الأحيان، يصبحون غير قادرين على احتمال أصواتهم الخاصة والشخصية.
لا أحد يعلم ما الذي يسبب هذا المرض بالتحديد، بل هناك مجموعة عوامل ومنها: إصابات في الرأس، التعرض دائمًا لأصوات عالية جدًا، التوحد.. وغيرها.
كذلك تم ربط هذا المرض بخلل آخر يسمى «تينيتوس»، وهو يتسبب في طنين في الأذنين. إلا أن السؤال الذي يحير الأطباء هو التوصل إلى معرفة ما إذا كان هذا الخلل ناتجًا عن تعرض بنية الأذن لأذى، أو في فهم الإشارات التي يرسلها الدماغ حول الأصوات.
وعادة ما يعزل المصابون بهذا المرض أنفسهم عن العالم، إذ يفقدون القدرة على ممارسة أعمالهم اليومية بشكل طبيعي وعادي، حتى إن بعضنا قد يعدهم من المجانين بسبب تصرفاتهم الغريبة وغير المتزنة. من هنا فإن الكثير من الأصوات تدعوهم الى الانخراط في ثقافة الصم لإنهاء معاناتهم، وذلك عبر وضع سدادت دائمة في الأذنين تمنع سماعهم الأصوات نهائيًا وتحل مشاكلهم.
ولم يتوصل العلماء والأطباء حتى الآن إلى حل نهائي لهذا المرض، ولكنّ هناك نوعًا من العلاج الأولي، ويسمى نظام «الضجة الزهرية» وهو يلعب على تموجات الصوت بحيث يخفض من حدة الأصوات العالية ويعدلها. ومن الممكن أن يشعر المريض بالتحسن عند ارتدائه جهازًا يحمل هذا النظام ويرسل ذبذبات الصوت فورًا إلى الأذن.
ويعزو بعض الأطباء سبب مرض الـ «هايبراكوسيس» إلى التلوث الضجيجي الناتج عن: زحمة السير، ضجيج المدن، الأدوات الموسيقية الإلكترونية المرتفعة الصوت، وغيرها من العوامل التي اعتدناها كخبزنا اليومي.
ولعل الحل الوحيد للتحصن ضد هذا المرض هو في الانتقال إلى الريف، أو وضع سدادة للأذنين! ولكن الازدحام السكاني الكبير في معظم مدن العالم، وتداخل المصانع مع المساكن، وضجيج الأوتوسترادات وآلات الحفر والبناء يجعل عشرات ملايين الأشخاص في قلب هذه المعاناة العصرية الكبرى، وخصوصًا الأطفال والشيوخ، إذ من المستحيل انتقال قسم كبير من سكان المدن إلى الأرياف لينعموا بالهدوء الصحي بدل الضجيج المرضي الذي أصبح أحد آفات العصر الكبرى، في الدول الصناعية والنامية على حد سواء.
ومن الملاحظات المهمة وجود أعداد كبرى من دور الحضانة والمدارس والمراكز الصحية في قلب الأحياء السكنية المحكومة بالازدحام، وبضجيج السيارات والشاحنات والمصانع الصغيرة والكبيرة، ما يحد من قدرة الأطفال والطلاب عمومًا على التركيز، ويجعلهم عرضة للإصابة بالصمم المرضي الذي بات مألوفًا ومنتشرًا على نطاق واسع
.