الخيال العلمي
فكر إبداعي يحول حياتنا إلى التقني والرقمي.
الدكتورة وسام باسندوة
بقدر ما تستطيع أطلق العنان لخيالك واعمل فكرك الإبداعي لخلق مبتكرات جديدة» هذه القاعدة الذهبية هي التي كانت وراء سعي العقول الذكية من أجل التطوير والتحديث والاختراع. ومن هنا جاءت الأطباق الطائرة والأقمار الصناعية، والهواتف الذكية والاتصالات السلكية واللاسلكية، وشبكات المعلومات الرقمية، والطائرات والغواصات.
لقد تحول محيطنا إلى تقني ورقمي بسرعة مع كلفة أكثر. كل هذا ليس وليد الفراغ، بل هو إفراز عقل مبدع متأمل يفكر بلا حدود وبلا تقدير. عقل أطلق لخياله العنان ليهيم بين الماضي والحاضر والمستقبل، مخترقًا حدود الزمان والمكان. فتارة يحلق في الفضاء وينسج خيالاته مع النجوم، ثم يتوغل في باطن الأرض ليعيش في طيات العالم السفلي، ويعود ليغوص في أعماق البحار ويتجول بين الكائنات والمخلوقات الغريبة. وهو في كل هذا يمزج الخيال بالواقع وينطلق لصناعة مستقبل آخر جديد ومختلف قد لا تسنده معطيات موضوعية أو حقائق علمية ملموسة، لكن قد يتحول هذا الخيال إلى حقيقة يومًا ما، أو قد يصنع حقيقة ويكون محفزًا ودافعًا للبحث وصناعة حقيقة جديدة. هنا يكون الحديث عن جانب متخصص من الخيال، هو الخيال العلمي.
الخيال يصنع الواقع
الأدب هو لسان حال هذا النوع من الفكر والمعبر عنه. فكاتب الخيال العلمي إما أن يكون روائيًا مهتمًا بشؤون العلم ومتابعًا له، أو عالمًا على قدر من الموهبة الأدبية الروائية. وفي الأولى يستطيع الكاتب أن يحيك عبر معلوماته العلمية شخوصًا وحكايات، منسلخًا عن حدود الزمان والمكان، متنقلاً عبر الأزمنة والعصور المختلفة، فيغوص في الحضارات القديمة الفرعونية والكلدانية والآشورية والرومانية وغيرها، يتشرب علومها وحضاراتها ويمزج بين شخوصها وثقافاتها، مضفيًا على كل ذلك لمحة من روح عصره، ونفحة من خيال خصب خلاق غير محكوم بقواعد البحث والتجريب العلمي المكتشفة والموثقة. فيصبح نتاج هذا الخيال الذي صنعه بمنزلة فكرة علمية جديدة يمكن إخضاع نتائجها للدراسة والاختبار. كما يمكن أن يقدم حلاً لمشكلة حقيقية بصورة خيالية، أو يصنع آلة سحرية لحل هذه المشكلة، ما يحفز العلماء للبحث والدراسة والتقصي لمحاولة جعل هذا الحل واقعيًا، وتنفيذ هذه الآلات السحرية والابتكارات الخيالية، من خلال تطوير القواعد العلمية وتطويعها لهذا الغرض. ففيما مضى لم تكن الطائرة أو السيارة أو الهواتف الثابتة والنقالة سوى مجرد خيالات وآلات سحرية لحل المشكلات، وأصبحت اليوم حقيقية.
إن من أهم روايات الخيال العلمي التي بشرت بالانتقال إلى المستقبل البعيد هي رواية آلة الزمن للكاتب هربرت ويلز التي صدرت في عام 1895، وتحكي عن عالم انتقل إلى المستقبل البعيد ووجد كيف أن مستقبل البشرية مظلم. لقد عاش رحلة الزمن في القرن التاسع في لندن وتبدأ قصته ذات يوم عندما كان جالسًا مع جماعة من الرجال الكبار يشرح لهم مبدأ الحركة ذهابًا وإيابًا في البعد الرابع، وعرض عليهم نموذجًا مصغرًا لهذه الآلة، وبين لهم أنه قد بنى نموذجًا يتسع له وانطلق في رحلة الزمن إلى المستقبل حيث أخذته إلى سنة802 - 701 بعد الميلاد.
عالم في ثوب أديب
النوع الآخر من كُتَّاب الخيال العلمي هو العالم الموهوب أدبيًا، وهو بهذا المعنى باحث أدبي مهتم ومعني بشؤون الرواية والأدب، لذا فهو أقرب للباحث العلمي منه للروائي. وهو قادر على المزج بين معارفه العلمية وخيال العالم الخلاق المتحمس للبحث والإنتاج. ويمكن احتساب أطروحته هنا بمنزلة فرضية علمية، يعكس العالم من خلالها أمنياته وطموحه العلمي مخضعًا إياها للبحث والتجريب، لكن هذه المرة ليس بين أروقة المعامل والمختبرات وجدرانهما، وإنما بين صفحات الأوراق وبين الأسطر وعبر الكلمات، حيث تصاغ الفرضية كما يتخيلها في صورة شخوص وكواكب وآلات ومجرات يحركها كيف يشاء، ناسجًا من خلالها دوافعه العلمية المحفزة، وجاعلاً إياها واقعًا معاشًا وممكنًا متحديًا المستحيل.
بساط الريح
هذا النوع من الإبداع الخلاق لا ينمو ولا يزدهر إلا في حضانة مجتمع محفز على العلم عاشق للعلماء، لذا نجد أن إبداعات الخيال العلمي ترتبط بالدرجة الأولى بهذا النوع من المجتمعات، لكن هذا لا يمنع من عدّ أساطير ما قبل التاريخ وما كانت تعرف بالخرافات حينها، وكذلك قصص الرحلات والمغامرات ضمن هذا النوع من الخيال المحفز. فبساط الريح الذي تفتقت عنه خيالات حالمة على سبيل المثال يمكن عدّه بمنزلة الطائرة في عالم اليوم. والبلورة السحرية التي يرى المرء من خلالها أهله ومحبيه في لمح البصر، والتي لطالما أثارت فضول الأطفال وشغفهم وهم يستمعون لمثل هذه الأساطير، تعكسها اليوم الكثير من برامج الإنترنت، والتي تقرب لنا المحبين في أقصى بقاع الأرض بمجرد كبسة زر فنراهم ونحادثهم، بل نعيش معهم كل تفاصيل حياتهم على مدار اليوم. لذا لا يمكن إغفال أثر هذه الأساطير والخيالات القديمة في التحفيز على العلم والإبداع. لكن المقصود بالمجتمع الحاضن المحفز هنا أنه كلما ارتفعت وتيرة البحث العلمي في مجتمع زاد إنتاج الخيال العلمي بتأثير هذا التطور. وكان ذلك مفجرًا لقريحة الكثير من الكُتَّاب أدباء كانوا أم علماء والعكس بالعكس. فالمجتمعات العلمية المتقدمة تبقى دائمًا معنية بالتحفيز على الخيال الإبداعي.
الخيال الحر
ارتبطت نشأة قصص الخيال العلمي وتطورها بالشكل الحديث الذي نعرفه اليوم بالثورة العلمية التي شهدها العالم الغربي في أوائل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ويمكن احتساب الفيلم العلمي «حرب النجوم» وما أعقبه من فيلمين مكملين «الإمبراطورية ترد الضربة» و«عودة الجدي» بمنزلة الطفرة في هذا المجال. صاحب ذلك اهتمام بإنتاج مجلات متخصصة لقصص الخيال العلمي، وبدأ كذلك الاهتمام بالخيال العلمي وتشجيعه على نطاق واسع في مختلف الفصول والمقررات الدراسية في الدول الغربية المتقدمة تقنيًا بهدف تنمية التفكير التلقائي الحر لدى الطلاب، الأمر الذي ذاع صيته فيما بعد في العديد من الدول. فالتربويون مجمعون على أهمية إطلاق الخيال الحر ودوره في تنمية مدارك الدارسين، ما ينعكس بالضرورة على النهضة والتطور العلمي للشعوب والمجتمعات.
تقبل الجديد
الخيال العلمي له دور آخر مهم ربما يغفله أو يتجاهله الكثيرون وهو أنه يهيئ عقول المتلقين ويحضرها، سواء أكانوا قراء روايات، أم مشاهدي هذا النوع من الأفلام على تقبل كل جديد، وتجنيبهم ما يعرف بصدمة المستقبل، سواء أكان هذا الخيال الذي تحول لمنجزات علمية آلات وأجهزة حديثة، أم مجرات فلكية جديدة قد تكون غامضة، أم كائنات ومصادر للحياة في كواكب أخرى، أم تقنيات طبية مبتكرة، خصوصًا أن كل هذه الاكتشافات قد لا تكون بالضرورة طيبة وتحقق الخير للعالم، بل هناك العديد منها شرير كما هو حال الأسلحة النووية والبيولوجية الفتاكة، التي لم تكن في السابق سوى نواة لمثل هذه الأفكار. من هنا فإن أفكار الخيال العلمي وأجواءه تشكلان مناخًا وبيئة جاهزة لتقبل التغيير في عالم لم يعد فيه للثبات مكان.