الفالينكي

«تردد اسم الفالينكي في الأهازيج الشعبية، وارتداه الغني والفقير. بدفئه قاد الجيوش الروسية للنصر بعد أن تغلبوا على الصقيع. أما اليوم فهو يسير متبخترًا على منصات عروض الأزياء بعد أن استوحت منه دور الأزياء تصاميم للأحذية الشتائية. له من المتاحف مساحة، وله من المصانع عدد، هو رمز للدفء في روسيا وجزء من تراثها.

يلعب المناخ وتقلباته الدور الأكبر في تشكل ثقافة اللباس. ففي روسيا تستمر الثلوج بالهطول لخمسة أشهر وفي بعض المناطق تصل إلى ثمانية أشهر بدرجات حرارة شديدة الانخفاض قد تصل إلى سبعين درجة مئوية تحت الصفر.
وفي وسط هذه الثلوج المرتفعة، والبرد الطويل القارس، تحتاج الأقدام إلى الدفء الذي يمد الجسم به، في حالات كهذه لا يتغلب على البرد الشديد سوى حذاء الفالينكي التراثي. اشتهر هذا الحذاء الصوفي على مر العصور حتى بات من أبرز تقاليد الشعب الروسي وأقدمها، فكما قال أحد المواطنين: «لا شيء يعد روسيًا فعلاً كالفالينكي، إن الحفاظ عليه هو حفاظ على التقاليد الروسية».
تعود كلمة فالينكي ذات الأصول الروسية إلى الشيء المصنوع من اللباد، وهي طريقة تصنيع لا تعتمد على الخياطة، بل على ضغط النسيج وفرده وتشكيله، وبهذه الطريقة تصنع الخيام وبعض أنواع القبعات والأحذية. الفالينكي هو حذاء شعبي مصنوع من صوف الخراف أو الجمال، يأتي برقبة عالية أو قصيرة كالخف، فيمكن ارتداؤه خارج المنزل وداخله. هو حذاء دافئ وصحي وصديق للبيئة.
ظهرت أحذية الفالينكي قبل 1500 سنة بين قبائل البدو الرحل، وبدأت صناعتها بالتطور عبر القرون. ففي القرن الثامن عشر، أصبح شكلها أكثر ملاءمة للقدم وتحملاً للسير على الثلج. وفي أواخر القرن التاسع عشر، انتشرت صناعة الفالينكي بكثرة، وبدأ تصديره للدول المجاورة عندما ظهرت المصانع المخصصة لهذا الحذاء.

بين التقدم والتراجع
خصص الحذاء للسير على الجليد الجاف، وفي حال الأمطار وبداية ذوبان الجليد، يوضع للحذاء طبقة من الربل تباع مفصلة حتى تمنع تسرب الماء إلى الصوف. لكن الماء هو المشكلة الوحيدة التي تهدد استمرارية الفالينكي لسببين، أولهما، أن الصوف ينكمش حين يتعرض للبلل، لذلك دومًا ما ينصح الزبائن بأخذ مقاس أكبر من حجم القدم، حتى يتيح ارتداء الجوارب الثقيلة، ولا يضيق على القدم إن انكمش قليلاً. وثانيهما أن شعبية الحذاء تضاءلت في مناطق وسط روسيا إذ إن الاحتباس الحراري جعل الجليد يذوب سريعًا ويحتاج إلى أحذية مقاومة للماء بدرجة عالية لا يمنحها الفالينكي.
عندما بدأ ظهور هذا الحذاء في روسيا، كان يباع بسعر مرتفع، فلا يستطيع اقتناءه سوى الأغنياء، فكانت العائلات الفقيرة تضحي ببعض مستلزماتها لتبتاع حذاء واحدًا يرتديه جميع أفراد العائلة بالتناوب ويورثوه لأحفادهم! إضافة إلى فائدته للأفراد، فإن الفالينكي يعد قطعة أساسية في اللباس الحربي، ويعتقد أنه من عوامل صمود الجيش الروسي وسبب في انتصاراته، حيث تتقهقر الجيوش الأخرى لعدم احتمال أقدامها برودة الثلج.
لم يرتض الفالينكي أن يكون حكرًا على طبقة دون أخرى، فمع ظهور المصانع، أصبح الجميع يرتديه، بدءًا من القادة والضباط ووصولاً إلى الفلاحين، بل إن الحيوانات الأليفة في روسيا يفصّل لها فالينكي خاص بأطرافها الصغيرة. في منتصف القرن العشرين، فقد الحذاء ظهوره في المدن بعد ارتباطه بالزي الريفي، لكن ما لبث أن عاد بجهود المصممين إلى سوق الموضة، بل واحتل مكانة في عروض الأزياء.
طريقة التصنيع
لم تتغير طريقة التصنيع منذ مئتي عام رغم دخول المصانع، فالآلات تقوم بالخطوات ذاتها. يعزو بعض الناس سبب احتكار الروس هذه الحرفة إلى أن طريقة الصنع بقيت لأمد سرًا تتناقله الأجيال مشافهة فقط. في الأرياف والقرى، لا يحتاج صانعو الفالينكي سوى لقطعة من الصوف وماء مغلي وبعض الأدوات الخشبية. أما في المعامل، فتنقي الآلات الصوف بعد تنظيفه، ثم يجفف وينتف ويفرد، وبعد ذلك يضغط بآلة تصل حرارتها إلى مئة درجة مئوية، ومنها ينتج ما يشبه شكل أكياس اللبّاد. تُفرد قطع الصوف لتأخذ شكل حذاء الفالينكي وتوضع لفترة لتجف تمامًا. وبعد الانتهاء من حياكته، يزين بالرسومات والنقوش المتنوعة التي تجذب المشتري من جهة، وتعكس الموروث الفني للشعب من جهة أخرى.
إن أجود أنواع الفالينكي هي المنسوجة يدويًا كونها تأتي أكثر نعومة وملاءمة لحجم القدم تمامًا، وبالنقشة التي يريدها المشتري، بخلاف القوالب المصنعية التي تبقى ميزتها في توفير الجهد وتخفيض السعر ورفع الإنتاجية.

متحف الفالينكي في موسكو
يسعى هذا المتحف للتعريف بالأشياء التي تبدو في الظاهر عادية، ويغفل من يراها عن قيمتها التاريخية. يحظى الزائر لهذا المتحف برحلة تروي تفاصيل حياة حذاء الفالينكي. يضم المتحف أحذية منذ القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، حيث استخدم الرياضيون الحذاء في أولمبياد عام 2002. كما يحوي عينات من الآلات المستخدمة قديمًا وحديثًا لتصنيعه، وبه شاشة كبيرة تعرض فيلمًا يبين كيف تحولت قطعة الصوف إلى أسطورة يفخر بها الشعب الروسي. في المتحف قسم خاص للفنانين ومصممي الأزياء لعرض تصوراتهم واقتراحاتهم لتطوير الحذاء وضمان استمراريته. كل من زار متحف الفالينكي في موسكو ذكر أن التجول به يشعر بالدفء والراحة كحال الحذاء المعروض.
يمكن شراء الفالينكي من هذا المتحف، أو من محال بيع التذكار في موسكو وأشهرها محل Izmaylovo، حيث يعد هدية متميزة في الأعياد، كما أنه متوافر على الإنترنت لزيادة الطلب عليه من دول مختلفة.