طيور المئذنة

 

بقلم: محمد سعيد المولوي

رسومات: Erick Josef Acupinpin

 

كانت شرفةُ بيتِ محمود الواسعةُ ملاصقةً لسطحِ المسجدِ المجاور، وكان في وُسعِ محمود أنْ يسيرَ من شرفةِ منزلِه إلى سطحِ المسجدِ بكلِّ يسر، وكان لمئذنةِ المسجدِ بابٌ مفتوحٌ على سطحِه، ما يجعلُ محمودًا يرقى إلى أعلى المئذنةِ بسهولة، وكان يعششُ في المئذنةِ عددٌ كبيرٌ من الطيورِ البرية والتي كانت تزعجُ محمودًا بأوساخِها وبالإساءةِ إلى ما يضعُه وأهلُه على شرفتِهم من الطعامِ أو الملابس.
قال محمود يومًا لأبيه إنني منزعجٌ من هذه الطيور وأوساخِها وقد صنعتُ قفصًا كبيرًا لها، وقررتُ أنْ أقبضَ على ما أستطيعُ من هذه الطيور، وأن أضعَها في هذا القفص لنأمنَ شرَّها ونستفيدَ من بيضِها وتوالدِها ونأكلَ من لحمِها، ثم إنها تعتادُ القفصَ فتأوي إليه.
ضحك الأبُ وقال: إنك واهمٌ يا ولدي، فهذه الطيورُ ستعودُ إلى مكانِ ولادتِها مهما طال زمنُ حبسِها، ولنْ ينالكَ إلا التعبُ. قال محمود إنَّ ما أقولُه صحيحٌ وسترى ذلك يا أبي.
انتظر محمود قدومَ الليلِ ورجوعَ الطيورِ إلى المئذنةِ ثم عمد إلى كيسٍ من القماشِ كبيرٍ وتسلل إلى المئذنةِ، وكلما لقي طيرًا قبض عليه ووضعه في الكيس، حتى امتلأ الكيسُ ورجع إلى شرفةِ دارِه وبدأ يخرجُ طائرًا طائرًا فينتفُ ريشَ جناحِه الطويل ويجعلُه في القفصِ، ولمْ يخطرْ ببالِه أنَّ محصولَه سيكونُ كبيرًا.
كان محمود يُقدِّم الطعامَ والماءَ للطيور، ويزيلُ الأوساخَ والأقذارَ من تحتِها، وكان يخرجُها من القفصِ إلى الشرفةِ حتى تحسَّ ببعضِ الحريةِ، وكان يضحكُ حين يراها تحاولُ الطيرانَ فلا تستطيع، لأنه سحب ريشَ أجنحتِها الطويلة، وكان يفخرُ أمامَ أبيه بأنَّه قد أصبح يملكُ مجموعةً كبيرةً من الطيور، ولكنَّ أباه كان يضحكُ من كلام ابنه وفعالِه، ويردِّدُ على مسامعِه بيتَ الشعرِ:« ستبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً»، وكان محمود كثيرًا ما يقفُ أمامَ القفصِ مسرورًا، وكان يراقبُ أجنحة الطيور ونمو ريشِ أجنحتِها، وحين لاحظ أنَّ الريشَ بدأ يطولُ امتنع عن إخراجِها من القفص، ولما رأى أجنحتَها قد طالت وأصبحت قادرةً على الطيران قال محمود: تعالَ يا أبتي وانظر كيف دجنت الطيور البرية، وانظر كيف ألفت مقرَّها الجديد؟ وقال الأب: هيا بنا.
وصل الاثنان إلى القفص ومدَّ محمود يدَه وفتح بابَه فإذا بالطيور تخرجُ كالعاصفةِ وتكادُ تردي محمودًا على الأرض، واتجهت جميعُها نحو المئذنةِ واصطفت على شرفتِها كالجنود، وكاد الأبُ يقعُ على الأرضِ من شدةِ ما ضحك! أما محمود فذُهِلَ مما حصل، وقال الأب: أرأيتَ يا بُني صحة كلامي، إنَّ المخلوقاتِ جميعًا تحبُّ الحريةَ وتعشقُها، فأنت إذا وضعت حبة فاصوليا في الترابِ شقّتِ الترابَ وخرجت لتتنسمَ الحريةَ بساقِها وأوراقِها، وإذا حبستَ عصفورًا في قفصٍ كان همُّه أن يخرجَ منه، وإذا حبستَ إنسانًا كان أملُه أن ينالَ حريتَه. فالحريةُ هي أغلى شيء في الدنيا بعد الإيمان، فاحرصْ أنْ تبقى حرًّا دائمًا ولا تبعْ حريتَك بمالٍ أو منصبٍ أو جاهٍ، وتذكّرْ دائمًا قولَ عمر بن الخطاب: «متى استعبدتم الناسَ وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا».