عند الحديث عن الدمام يب
عمد الإنسان إلى استغلال الأرض بطرق شتى تلبية لحاجاته، الأمر الذي دفع به إلى التعامل مع الأرض وما تختزنه وتجود به من موارد طبيعية بطريقة لا تخلو من سلوك عشوائي، كانت نتائجه كارثية، تجلت أخيرًا في الدعوات والمناشدات التي أطلقتها كثير من الجهات العاملة في مجال المحافظة على البيئة.
لكن الصورة تبدو مغايرة تمامًا في منطقة عسير، وفي قرية المفتاحة تحديدًا، حيث هناك للرؤية الإنسانية بُعد جمالي اتسق مع الطبيعة الخلابة التي وهبها الله لهذه المنطقة، وكان التاريخ حاضرًا بتحولاته ليضفي سحرًا على الجمال المنظور في المنطقة.
المفتاحة اليوم قرية للجم
ال وحضن للفن والإبداع، إذا وقفت على مشارفها سيتداعى إليك التاريخ بكل صوره الشاخصة، فالقرية لم تفقد نمطها وطابعها التاريخي، بل حافظت عليه وهي ممسكة بأسباب الحداثة كلها، ولم تغض الطرف مطلقًا عن الماضي بكل الإرث الذي يتبطنه.
حكاية القرية
لندع المفتاحة تحكي لنا تاريخها ونحن على قمة أحد جبالها، هناك عند السفح كانت مزارع القمح والذرة وغلال أخرى، تحيط بها بساتين محملة أشجارها بثمر العنب والخوخ والمشمش. من هذه البساتين تهب رياح مضمخة بعبير من رائحة الطبيعة والأرض المرتوية، و رائحة الطلع وغيرها من الروائح الطبيعية الأخرى التي تجعل للمكان خصوصية، ورونقًا متفردًا، وإذا انزلق بصرك إلى المراعي ستكتحل عيناك برؤية «الحلال» راتعًا، يصدر الثغاء والخوار وما قارب هذه الأصوات، أما الآن فمد بصرك إلى ناحية المباني، واستدعها في خيالك.
ألا ترى هذا الطابع الفريد من البناء في هذه القرية التي تفتح القلب والأفق لك، و تجلس في وسط مدينة أبها، إن هذا البناء يعود في تاريخه إلى أكثر من قرنين ونصف القرن من عمر الزمان، فالمنازل متلاصقة على امتداد الممرات الداخلية والخارجية، حيث تم بناؤها بأساليب بدائية وتقليدية تميزت بها هذه المنطقة، ومن ميزات هذا البناء أن الفتحات المعدة للتهوية تكون صغيرة، والحوائط سميكة محلاة بـ«الرقف» لحمايتها من الأمطار، بجانب توفير الظلال. تكفي هذه اللمحات عن الماضي، ولنعبر الزمن إلى الحاضر، فقد تبدل حال هذه القرية وتغيَّر شكلها، عبر قصة درامية، وملحمة جمالية كبرى، حولتها إلى مكان آخر وسط مدينة أبها، مشتملاً في جنباته على قرية المفتاحة التشكيلية، ومسرح المفتاحة، وسوق الثلاثاء الشعبي، فضلاً عن مركز الملك فهد الثقافي بوصفه أول مشروع من نوعه في المملكة منظورًا في القرية التشكيلية التي تحتشد جنباتها بالفنون التشكيلية المختلفة، إلى جانب الفن الفوتوغرافي، والصناعات التقليدية المحلية التي تجذب إليها محبي الفنون وموهوبيها لممارسة أعمالهم الفنية في بيئة مهيّأة ومناسبة لمواهبهم الفنية العديدة، ليجدوا في هذه القرية بغيتهم وتطلعاتهم التي يرجونها.
كانت هذه القرية مهجورة، تركها أهلها بحثًا عن مكان آخر، ولم تكن العين التي تقع عليها ترى فيها غير شاهد تاريخي وتراث مغمور. ولعل الأمير خالد الفيصل في كتاب «مسافة التنمية وشاهد العيان»، قد كشف عن حال القرية قبل أن يوصي بتحويلها إلى مثابة للجمال والفن، حيث كتب يقول: «حين زرت المفتاحة لأول مرة وجدت بقايا مساكن قديمة حولها بعض المزارع، ولم يكن بها إلا رجل واحد مسن يمشي على عصا».
كانت تلك البداية، منذ أن وقعت عين الأمير خالد الفيصل عليها، وكان وقتها أميرًا لمنطقة عسير، فرسم لها الصورة الأخرى، وذلك في بداية عام 1408هـ.
كانت ماثلة في عينيه قرية مهجورة متداعية المباني، ولم تكن ثمة طريقة لإعادتها إلى صورتها القديمة عبر الصيانة والترميم، فكان البديل الأمثل هو إحلالها بمركز جذب سياحي داخل المدينة يحمل الطراز المعماري القديم، ويهتم بالحركة التشكيلية والفوتوغرافية ويحضر بعض المهن والحرف والمشغولات اليدوية المحلية. وعلى هذا مضى المشروع، وأول ما قام به الأمير خالد قبل الشروع في إنفاذ رؤيته للقرية في سمتها الجديد، هو تقديم التعويض المناسب لأصحاب الأملاك، ومن ثمَّ الشروع في بناء القرية الجديدة على الطراز الحديث بدعم مادي ومعنوي وإشراف تام منه، بوسط حماس المواطنين الذين رأوا في المشروع الجديد فرصة لإحياء القرية على نحو يجعل منها قبلة للسياحة، ومزارًا للفنون، وموطنًا للجمال، وهو عين ما تحقق لهم لاحقًا، حيث شيدت في القرية مراسم للفنون التشكيلية مزدانة بالمعارض والمسرح الذي يتسع لأكثر من ثلاثة آلاف متفرج. ولما اكتمل المشروع جاء افتتاحه وافتتحه سمو الأمير في حفل بهيج تناسب وروعة الإنجاز، وكان ذلك في عام 1410هـ ضمن ملتقى صيفي سنوي عسيري، وكانت القرية في حلتها الجديدة آية من الجمال، ودالة على تفردها، ليس على مستوى المملكة فحسب، بل على مستوى الدول المحيطة، ولا يزال الجزء الباقي منها ينتظر التحديث ضمن مشروع وسط أبها، ونأمل ألا يطول الانتظار؟
الآن وقد أصبح الحلم حقيقة، فالداخل إلى هذه القرية سيجد الفنون التشكيلية بكل ألقها ورونقها حاضرة في هذه البقعة الجميلة، سيجد المكان خلية نحل، ثمة عدد من الدورات الفنية مستمرة لا تنقطع في الفن التشكيلي والخط العربي وفن الخزف، بجانب دورات في اللغة الإنجليزية والحاسب الآلي، كل ذلك للرجال والنساء على حدٍّ سواء، دون تمييز أو تفريق بينهما.
للمفتاحة حضور سنوي في المهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية»، حيث ظلت تثبت حضورها السنوي بألقها وعنفوانها الفني الأخاذ، كما تنشط على مسرحها الأمسيات الثقافية والفنية، وتتواتر في القرية إقامة المعارض في صالات المركز مثل معارض الكتاب، ومعرض الأرشيف الوطني، ومعارض دارة الملك عبدالعزيز، وأيضًا أقيم عليها العديد من الأمسيات والندوات والمؤتمرات على مستوى العالم العربي. أما بالنسبة للفن التشكيلي فتعد قرية المفتاحة من أكبر القرى التشكيلية على مستوى الشرق الأوسط، ولها اهتمام بالفن التشكيلي والفنانين، وذلك بعقد الدورات التشكيلية، وعمل المعارض، وورش العمل الفنية، واستضافة أعلام الفن التشكيلي. للمسرح في قرية المفتاحة مساحة كبرى، حيث يُعد أكبر مسرح مغلق في الشرق الأوسط، إذ يتسع لأكثر من ثلاثة آلاف متفرج، وقد أعد إعدادًا تقنيًا متميزًا، قوامه أحدث التقنية الصوتية والإضاءة، وقد شهد هذا المسرح إقامة العديد من الفعاليات المتنوعة بين المحاضرات والندوات والاحتفالات، كما أضحى هذا المسرح ساحة لالتقاء عشاق الفن بمطربيهم في الموسم ال
سياحي السنوي.
سوق الثلاثاء
لا يقف نشاط القرية عند حد الفن التشكيلي والفنون التقليدية الشعبية والنشاط المسرحي، فهناك، أيضًا، سوق الثلاثاء الشعبي الذي يُعد من أقدم الأسواق الشعبية في منطقة عسير، فالشواهد ترجح تاريخ بدايته لعام 1250هـ، في حي مناظر بأبها، وسمي بهذا الاسم نسبة ليوم انعقاده وهو يوم الثلاثاء من كل أسبوع. ولهذا السوق قصص قديمة، فهو ليس مكانًا للبيع والشراء فسحب، بل إنه يُعد بمنزلة المنتدى المفتوح، وهو في هذا يشبه دور سوق عكاظ التاريخي. ففي ساحة سوق الثلاثاء يلتقي المنتج بالمستهلك في سياق البيع والشراء والسلع المعروضة، وفي خضم البيع والشراء يطل أصحاب الرأي والقول ليختلط كل ذلك في ساحة السوق، فتأتيك الأخبار تترى عن المناخ في تقلباته الكثيرة، وأكثر ما يكون الحديث عن موسم الأمطار، ثم يدور الحديث عن الأسعار والتجار والمستجدات، كما تعقد مجالس إصلاح ذات البين وحل المشكلات وغيرها، إضافة إلى تدعيم ضوابط التسويق وتطبيقاتها.
أما اليوم ومع تطور العمران والسكان وحاجة الناس إلى توفير المتطلبات المعيشية فقد تم التوجيه بإعادة إحياء دور الأسواق الشعبية في المنطقة ومنها سوق الثلاثاء بأبها، وتم اختيار الموقع المجاور بجوار قرية المفتاحة لإنشاء سوق الثلاثاء الشعبي الجديد بمدينة أبها، وبعد استكماله من جميع جوانبه تم افتتاحه في يوم الثلاثاء السابع من جمادى الآخرة 1416هـ، على مساحة تقدر بنحو 14953م 2في شكل بيضاوي مقسم إلى ممرات للمشاة وبسطات مفتوحة.
هكذا تقف قرية المفتاحة اليوم، شاهدة على عبقرية أمير فنان، استطاع برؤيته الثاقبة أن يجعل من هذا المكان المهجور، موطنًا للجمال، ارتبط به، فما إن تذكر قرية المفتاحة إلا ويذكر اسم الأمير خالد الفيصل. إن القرية الآن معلم حضاري وإبداعي وثقافي، تتباهى به أبها وتفخر من بين بقية مدن مملكتنا الفتية. لقد كانت هذه القرية نتاج رؤية جمالية متفردة، وجهد دؤوب، وعمل مخلص للوطن، والمؤكد أن هذه القرية بكل ما تحتشد به من مرافق حيوية، قوامها مركز الملك فهد والمراسم الفنية المخصصة للتشكيليين، وما تتمتع به من إدارة واعية، وغير ذلك من الشواهد التي بها، ستكون عونًا لها لتكملة المسيرة