شجرة الصحراء

رحلة حياة عمرها أربعة آلاف عام ربطت مصير الأحساء بالنخلة.


الأحساء: إبراهيم اللويم

النخلة ظل الأحسائي الذي رافقه رحلة الهجير في ماض بعيد، لم يكن يعرف غير ثمرتها طعامًا، إلى جانب ما تجود به الحياة، ولم تكن حياة ذاك الزمان تجود بالكثير. وعلى الرغم من رغد العيش الذي حط على المملكة إثر توحيدها وتفجر النفط في أرضها، إلا أن الأحسائي ظل وفيًا لنخلته، أو ربما أن النخلة التي تقف على أرضه شامخة منذ ما يربو على أربعة آلاف عام، هي التي ألهمته الوفاء، وغذته بمعانيه الحلوة حلاوة تمر الأحساء الذي يتغنى بحلاوته الركبان.

حالة عشق
كأن المزارع الأحسائي لم يسمع بطفرة النفط، فما زالت عيناه على نخلته التي لم تنضب ثمارها، ولم تتحكم في أسعار جناها الرطيب تقلبات الأسعار العالمية صعودًا وهبوطًا، لذا كانت ثقة أهل الزراعة من الأحسائيين بنخيلهم بلا حدود. فمنذ قرون جعلها الله سببًا لأرزاقهم وحياتهم، ومنذ قرون وقيمة ثمارها ترتفع يومًا بعد يوم، ومنذ قرون وعشقهم لقضم ثمرها الشهي لم تتراجع أسهمه في ذوائقهم، فلم يحدث يومًا أن ارتضى الأحسائي بوجبات المطاعم العالمية لثمار النخيل بديلاً، وإن دخلها مع الداخلين، فلا يزداد إبان خروجه منها إلا اعتزازًا بنخلته التي لم تغلق أبوابها يومًا في وجهه، ولم يتكبد معاناة الانتظار للحصول عليها، فقط لا يكلفه الأمر سوى الجلوس في ظلال النخيل، حتى يتساقط جناها شهيًا على رأسه وعلى رؤوس صغاره الذين لم يهنؤوا بمرتع لعب أرحب أو أكثر ظلاً، أو أوفر بهجة وثمارًا من ظلال نخيلهم. وفوق هذه وتلك، ففيما جلبت عليه الوجبات السريعة وألوان الحلوى المصنعة التي أغرقت بها حياة الناس، السمنة والأمراض، فاضت عليه نخلته الطيبة عافية وصحة بدن.
لذا، طالما كانت النخلة ملهمة شعراء الأحساء، يتغزلون في قوامها بقصائدهم، ويصعدون في شموخها الممتد إلى السماء بخيالاتهم، ويتغنون في عشقها بأجمل القصيد، ممهورًا بأختام الوطن. ولم يكن عشق النخلة صورًا في مخيلة الشعراء وحسب، بل تجذر هذا الحضور القوي لرفيقة تاريخ الصحراء في الإدراك الوطني العام، وتحول إلى رمز للانتماء والأصالة، فلا عجب إذًا أن تتوسط النخلة السيفين المتعانقين على علم الوطن، في دلالة واضحة على ما يكنه ضمير الوطن من امتنان لنخلته الوفية.

الجذور
على شاكلة ارتباط الجينات، ترتبط النخلة بوجود الإنسان على أرض شبه جزيرة العرب، إذ تدفع جميع الدلائل التاريخية والطبيعية وآراء المؤرخين في خط أن موطنها الأصلي هو الخليج العربي، ومن بين من قالوا بذلك العالم الإيطالي أُدواردو بكاري الذي بنى دليله في ذلك على أن هناك جنسًا من النخيل لا ينتعش نموه إلا في المناطق شبه الاستوائية، خصوصًا عند سواحل الخليج العربي. أما في الأحساء فتقول مصادر التاريخ القديم إن تاريخ اكتشاف النخيل إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، ما يفسر هذا العشق الفطري للنخيل في وجدان الأحسائيين.
ولم تنل الظروف الصحراوية القاسية التي تعيشها نخلة الأحساء على مر القرون من صمودها، فما زالت إلى اليوم على شموخها، مقدمة عشرات الأدلة على أنها شجرة الصحراء بامتياز من دون منازع، فالصفات التكوينية التي منحها الله إياها، ليست لشجرة أخرى غيرها، بما تمتلك من قدرة على البقاء وسط تقلبات درجات الحرارة، والتكيّف مع العوامل المناخية، ولا سيما امتداد فصل الصيف، بدرجة حرارته العالية. فلا تتوقف النخلة عن الحمل والإثمار كل عام إلا ببلوغ عمرها نصف قرن، إلا أنها تبقى حتى بعد توقفها عن الإثمار حية شامخة.
وربما يعود عشق النخلة، أيضًا، لأرض الأحساء إلى ارتوائها من مياهها الجوفية الوفيرة التي تشتهر بها، وسط عيون، أم سبعة، والجوهرية، والخدود، والحارة، الارتوازية، وغيرها من العيون التي كان المزارعون وما زالوا يستخدمونها في ري مزارعهم.

رحلة حياة
من الحياة إلى الممات طالما كانت النخلة رفيق درب وفيًا للأحسائيين، فمنذ خروج الأحسائي القديم من المهد، حيث يُصنع سريره المتأرجح من جريد النخل، ووقت دخوله إلى اللحد، يغلق عليه بأجزاء من جذوع النخل، وفيما بينهما، كانت بيوت الماضي تسقف بجذوع النخلة، ومنه تشاد ركائز الأعمدة.
أيضًا كان للمرأة الأحسائية نصيبها الخاص من عطاء النخيل، فأصل السعف المتصل بالجذع «الكرب»، كان يستخدم وقودًا لإشعال النار التي تطبخ بها الطعام، أما الألياف الملتفة على جذع النخلة فكانت تستخدم في صنع المفارش تارة، وتارة أخرى في صنع الآلة اليدوية التي تعرف بـ«الكر»، تلك التي يستخدمها المزارع في تسلق النخلة في مواسم الصرم. أما الجريد فكانوا يستعملونه في صنع الأقفاص، وأسرّة الأطفال الرضع.
وما زال للنخلة حضورها في حاضر الأحسائيين، للآن يصنعون منها الحُصُر، والسلال الخوصية متفاوتة الأحجام والأشكال التي تستخدم في قطف الرطب والتمر.
وفي موسم صرم النخيل التمر كان الأحسائيون قبل 20 عامًا، يخزنون التمور في غرف صغيرة داخل منازلهم أو في مزارعهم، بعد أن يتم حصادها في موسم الصرام، الذي يأتي في الغالب متزامنًا مع بداية دخول منطقة الأحساء في فصل الخريف.
يحرص الأحسائيون على أن يكون التمر الوجبة الرئيسة لهم في موائدهم، على الرغم من أن بعضهم قد لا يعلم أن التمر له قيمة غذائية يستحق بها أن يولى الرعاية والاهتمام، لكنه اهتمام نابع من حبّهم الفطري العميق لثمار النخلة.
ثم عادت النخلة لتثبت للأحسائيين مجددًا أنها قادرة على أن تقدم لهم ما لا يسع غيرها أن يقدمه، إذ لعبت النخلة دروًا أساسيًا ومهمًا في تفعيل مشاركة واحة الأحساء في مسابقة عجائب الدنيا السبع للمرة الأولى على مستوى الشرق الأوسط، إذ اعتمدت اللجنة النخلة رمزًا من خلاله يتم المضي قدمًا في تخطي مراتب متقدمة في المسابقة، كون أشجارها قوام إحدى أكبر الواحات الزراعية في العالم على الإطلاق.
نحو ثلاثة ملايين نخلة منتشرة على أراض شاسعة، تبلغ مساحتها أكثر من عشرة آلاف هكتار، سلطت الضوء إعلاميًا بالكامل على واحة الأحساء ودور، وعززت تعريف المجتمع المحلي والدولي بطبيعة الواحة الزراعية ومقوماتها وتاريخها، بفضل نخلتها البديعة.