width=

 


الأحساء
الحاضر العريق

مدينة الماضي التي جمعت بين سحر المكان وأصالة تراث الإنسان

خيرالله زربان- جدة
تصوير- ناصر شنان

امتداد تاريخ حاضرة الأحساء، إحدى أعرق حاضرات الجزيرة العربية، إلى أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وحيازة محيطها الجغرافي كبرى الواحات الزراعية في العالم باشتماله مليوني نخلة، يؤهّلها لتكون إحدى أهم مناطق الجذب السياحي، لا لسكان المملكة فحسب، بل لجميع مواطني الخليج والشرق الأوسط، حتى لغير العرب، إذ تتفجر في ربوع الأحساء عشرات العيون والينابيع الخاصة والعامة، وتتناثر على أرضها عشرات المواقع الأثرية. وتسعى الأحساء بثقة إلى مواكبة ماضيها الآسر، وطبيعتها الساحرة، بنمو مدني عمراني يرضي تطلعات زائريها، ويحقق لهم عنصر التنوع بأسواقها العامرة، ومجمعاتها التجارية الحديثة التي انتصبت على شوارعها الجميلة مؤخرًا.

الأحساء المكان
تقع محافظة الأحساء في الركن الجنوبي الشرقي من المملكة، وتكتسب أحد وجوه أهميتها من موقعها الجغرافي، إذ تعدّ المنفذ البري الذي يربط المملكة بدول الخليج: الإمارات، وقطر، وسلطنة عُمان، بينما لا يفصلها عن الرياض أكثر من 328 كيلومترًا. تكتسي الأحساء بغطاء نباتي ثريّ من العائلات النباتية المتنوعة، إضافةً إلى اكتناز حياتها الحيوانية، فهي تضم منطقة الربع الخالي التي تعدّ مرعى جيدًا للثروة الحيوانية، ومنطقة العقير بمينائها الشهير الذي يعدّ أقدم موانئ الخليج، إضافةً إلى عدة جزر طبيعية تعدّ بيئةً خصبةً لأنواع كثيرة من الطيور. وتحتوي الأحساء على كبرى البيئات الزراعية والنباتية في المملكة، وهي من كبرى الواحات الزراعية في العالم، لمساحتها الزراعية التي تُقدَّر بأكثر من 300 ألف دونم.
وامتدادًا لمقومات الأحساء السياحية هناك تنافس ملحوظ مؤخرًا وتنام في الخدمات الفندقية، فهي تضم فنادق خمسة نجوم وأربعة نجوم، إضافةً إلى الفلل والأجنحة والصالات المتعددة الأغراض للحفلات والاجتماعات والمطاعم المختلفة. كما تنتشر المطاعم بين مدن الأحساء وقراها، متنوعةً بين الفاخرة والشعبية، ومنها ما هو مختصّ بتقديم الأكلات البحرية، وبعضها ينفرد بتقديم الأطباق الوطنية.
ليست هناك مبالغة في تنفيذ شوارع الأحساء وإنارتها، وهو ما يحقّق عنصر البساطة فيها. أما اللوحات الإرشادية، فتجعل جميع الوجهات فيها سهلةً لزائرها للمرة الأولى.
واشتهرت المنطقة بمياهها الجارية الدافقة، فالأحساء التي اكتسبت اسمها من واقع طبيعتها الجغرافية حيث وفرة المياه وعذوبتها يوجد بها كثير من عيون المياه الطبيعية التدفّق، تلك التي كانت تمدّ أراضيها الزراعية بالمياه عبر مجموعة أنهار وجداول تشكّل في مضمونها شبكة الري التقليدية في الأحساء قبل إقامة مشروع الريّ والصرف الذي عُدَّ عند إقامته أحد أكبر المشروعات من نوعه في الشرق الأوسط.

أكثر من وجهة
تمتلك الأحساء مقوّمات سياحية طبيعة أخرى يتصدّرها جبل القارة إحدى العجائب بحقّ، ولا بد للسائح من الاتجاه إلى القرى الشرقية والشمالية حيث هذا المعلم السياحي المدهش وغيره من المعالم الطبيعية، مثل: متنزه الشيباني، ومصنع الفخار، ومتنزه الأحساء الوطني، وجبل كنزان. ويُعدُّ جبل القارة أهم معلم سياحي في الأحساء، ويكتسب شهرته من امتلاكه بعض الصفات النادرة، منها البرودة الشديدة لكهوفه في فصل الصيف، ودفؤها في فصل الشتاء. ويمكن للسائح الاستمتاع بالجلوس على سفح الجبل لرؤية امتداد النخيل على امتداد النظر، أو المرور في شوارع قرى التهيمية والدالوة والقارة والتويثير التي تحرس الجبل لإمتاع العين بمشاهدة التكوينات العجيبة لصخور الجبل التي تتنوع تشكيلاتها على هيئة رأس إنسان، أو حيوان، أو طائر، وهي لوحات فنية وأشكال بديعة وفريدة لصخور الجبل تثير الانبهار والدهشة. وما يعرفه السياح وعدد كبير من أبناء الأحساء هو مغارة جبل القارة فقط، وهي المتاحة للزيارة، لكن الجبل به غيران وكهوف كثيرة لم تُعرف حتى الآن. ومن أهم غيران الجبل: غار الناقة، وبه كهوف كثيرة على شكل غرف، وكانت كلّ مجموعة من الأصدقاء أو الإخوان أو الأقارب يتخذون مكانًا معينًا يكون خاصًّا بهم، ويُعرف باسمهم، فقد كان أهالي قرية القارة ينامون في الزمن الماضي في هذه المغارات من بعد صلاة الفجر، خصوصًا في شهر رمضان، لحرارة الشمس آنذاك، وضعف الكهرباء عند بعض أهلها عندما كانت الكهرباء أهليةً، أو عدم توافرها عند بعضهم الآخر، وهي شديدة البرودة ومظلمة جدًّا.
ويُوجد غار الناقة الأبرد، وبه مكان يُسمَّى الثلاجة لشدة برودته، وبه فتحة صغيرة جدًّا تسمى (الفريزر). ولا يمكن النوم أو الجلوس في هذا المكان بسبب البرودة الشديدة. ويحتاج الداخل إلى هذا الغار إلى أن يحني ظهره، أو يمشي على ركبتيه، أو يزحف أحيانًا. وقد اكتشف بعض الشبان عددًا من الغيران داخل هذا الغار، لذلك يُعرف الغار المُكتشف باسم الشاب الذي اكتشفه.
وهناك غار آخر، يُسمَّى غار العيد، فتحاته واسعة، وبه أمكنة فسيحة ومرتفعة على شكل صالات تشبه في تكويناتها المسارح الرومانية، وهي مهيّأة لأن تكون قاعة عرض مسرحي أو معارض فنية، كما يمكن أن تستخدم مجلسًا يضمّ ما لا يقلّ عن ثلاثمئة شخص.
وعلى مسافة مئة كيلومتر من الهفوف يقع شاطئ العقير، أحد أقدم الموانئ في المملكة، وثغر بلاد هجر منذ القدم، وبه مبنى الخان، ومبنى القلعة، ويتميّز بتنوّع المظاهر الجغرافية من الرؤوس والخلجان والجزر. ويُعدُّ شاطئ العقير أحد أهم المواقع السياحية والتراثية والساحلية، إذ يحتفظ بسجلّ حافل من الذكريات المهمة لمنطقة الخليج والجزيرة العربية في أمّات الكتب السياسية والتاريخية، وهو من أجمل سواحل المملكة المطلة على الخليج العربي من حيث الطبيعة البكر، والبيئة النظيفة، مع وجود آبار المياه العذبة التي تنبع من عدة جزر بجوار الساحل والمباني القديمة قُربه. وتشكّل الاستراحات الريفية والمنتجعات عامل جذب للسياحة في محافظة الأحساء التي أضحت رقعتها تشهد اتساعًا كبيراً في السنوات الأخيرة، إذ تبرز بوصفها واجهةً مهمةً للسياحة في أحضان الطبيعة، ففي المساء حين تنخفض درجة الحرارة إلى 36 درجة يحلو للسائح أن يمضي وقتًا ماتعًا بين النخيل في الاستراحات الزراعية المتناثرة في المدن والقرى حيث الماء والهواء العليل، ويتذوق ما يطيب له من أصناف متنوعة ومختلفة من منتجات زراعة الأحساء، وعليه ألا يتنازل عن أكل رطب الخلاص والغّر والشيشي، وشرب كأس عصير الليمون مع النعناع الحساوي.

حاضر بنكهة الماضي
تضفي المعالم الأثرية التي تكتنز بها الأحساء لمسة أصالة آسرة على المحافظة، فأمام السائح مواقع أثرية وتراثية وأمكنة سياحية متعددة، منها قصور الأحساء الأثرية، وأشهرها قصر إبراهيم في حيّ الكوت بمدينة الهفوف، وهو أهم معلم أثري، وتمّ بناؤه في زمن الاحتلال العثماني الأول، ويمتاز بنمطه المعماري الإسلامي، وبه مسجد بناه علي باشا في عهد سليم الثاني عام 1571م. وهناك قصر خزام في حيّ الرقيقة بالهفوف، الذي شُيِّد في عام 1220هـ. وفي مدينة المبرز قصر صاهود، الذي بُني في أواخر القرن الحادي عشر الهجري، إضافةً إلى قصر المحيرس. ومن المساجد التاريخية: مسجد جواثا الذي يقع بين قريتي الكلابية والمقدام في منطقة كانت تُعرف بمدينة جواثا، وكانت لبني عبدالقيس في العصر الجاهلي، وأقيمت فيه ثاني صلاة جمعة في الإسلام بعد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك دلالة على اعتناق أهالي هجَر الدين الإسلامي مبكرًا. وقد قامت مؤسسة التراث الخيرية مؤخرًا بترميم هذا المسجد. وهناك مسجد الجبري في حيّ الكوت بالهفوف، الذي أُسس في عهد الدولة الجبرية عام 880هـ، ويتميز بطابعه المعماري المبنيّ بنظام الأقواس المتقاطعة، وما زالت تُقام فيه الصلاة حتى اليوم. وفي مدينة الهفوف متحف الأحساء للآثار والتراث الشعبي، الذي يضم مجموعةً من المقتنيات والمخطوطات الأثرية الشاهدة على قدم الحضارات التي استوطنت هذه المنطقة، إضافةً إلى المتاحف الشخصية، مثل: متاحف إبراهيم الذرمان في المبرز، وسعد المبيريك، وصالح الخميس، ومحمد الملحم، وصالح الظفر.