width=

 


رحلة إلى القطب الشمالي
«يامال» كاسحة جليد نووية روسية تعامل السياح برفق


مورمانسك (روسيا)- اهلا وسهلا

«كثير من الناس لا يعرف الفرق بين الفراشة (Moth) وأبي دقيق (Butterfly) يامال يبدو اسمًا شاعريًّا للوهلة الأولى، وربما هو بحيرة صافية، لكنه في الواقع أطلق بصفة خاصة على آلية من أعتى الآليات التي صنعها البشر لمواجهة الطبيعة ومقارعتها، آلية مزوّدة بمفاعلين نوويين قادرين على إذابة الثلوج. يامال هي واحدة من كاسحات ثلوج روسيا الأكبر والأقوى، وواحدة من تلك السفن القليلة في العالم القادرة على اختراق جبال الجليد المهولة في القطب الشمالي وهي تحمل على متنها السياح!

تفتح البحار المتجمدة في القطب الشمالي أبوابها ومخزونها الطبيعي برحابة صدر أمام هدير كاسحة الثلوج (يامال)، واسمها مأخوذ من شبه جزيرة في سيبيريا، ويعني نهاية الأرض. تحطّم هذه السفينة العملاقة الجليد لسبب واحد، هو إفساح المجال أمامنا لملامسة جمالية تلك المنطقة وروعتها، وللاستفادة منها في اختصار المسافات، والحدّ من الرحلات الطويلة التي تتسبّب بازدحام حركة الملاحة البحرية.

قائدة ركب سفن الشحن
في رحلاتها الكثيرة عادةً ما ترافقها سفن الشحن وناقلات النفط، أو حتى سفن البحرية الروسية العسكرية التي تعبر المنطقة القطبية الشمالية، وهي تسير على خطى كاسحة الثلوج، وتتبع مسارها بدقة، فتوفّر بذلك عناء قطع آلاف الأميال في رحلة واحدة بين آسيا وأوربا، موفّرة في الوقت نفسه استهلاك الوقود، ومقلّلةً من انبعاثات الكربون السامة في الجو. لكن لا شيء يضاهي الركوب على متن (يامال) لمشاهدة المحيط المتجمد الشمالي من حولك.

تكرّر المياه وتحنو على الطبيعة
على الرغم من إطلالتها العملاقة تتعامل (يامال) مع الطبيعة من حولها بحنوٍّ، فهي تمتلك محطة خاصة لتنقية المياه وتكريرها، ونظامًا بيئيًّا للتخلص من النفايات على متنها، ومن ثَمّ فإن آثارها أو فضلاتها البيئية هي في الحد الأدنى. كما أنها تعمل بالطاقة النووية، وهو ما يعني انخفاض انبعاثات الكربون منها، فلدى كاسحة الجليد مفاعلان نوويان قادران ليس فقط على دفعها نحو اختراق الجليد، بل أيضًا إذابته في حال تعذّر عليها خرقه. وتجدر الإشارة إلى أن الشرط الأساسي لمسيرها أن تبحر في مياه باردة، لكي يتم تبريد مُفاعلَيْها، أي أنها غير قادرة على الإبحار باتجاه المياه الاستوائية حيث ترتفع درجة حرارة المياه، ومن ثَمّ فهي لا تستطيع زيارة القطب الجنوبي.

خدماتها تفوق خدمات فندق 5 نجوم
مع أن الرحلة إلى القطب الشمالي تثير الدهشة والغرابة في آن واحد، لأن المنطقة كانت منذ مدة طويلة بعيدةً كل البعد من تصوّرنا للمنطقة السياحية ومفهومها، إلا أن كاسحة الثلوج الروسية جعلت المستحيل في متناول يديك، فهي اليوم تفسح المجال أمام السياح الراغبين في التوجّه إلى تلك المنطقة لحجز مكان لهم على متنها خلال رحلاتها المتعددة إلى القطب الشمالي سنويًًّا، إذ تستضيف في كلّ رحلة 100 راكب. لكن الأمر لا يخلو من التكلفة العالية جدًّا، التي لا تقلّ عن 22 ألف دولار للكابينة العادية، و25 ألف دولار للجناح الصغير، و29 ألف دولار للجناح. فالكاسحة الجليدية التي تخترق عباب المحيط المتجمد الشمالي تفوق خدماتها بكثير خدمات أي فندق خمسة نجوم على الأرض. كما أن الأمر لا يخلو من الذهول، إذ تخيّل أنك تقول لأصدقائك إنك ذاهب على متن كاسحة ثلوج روسية تعمل بالطاقة النووية لاستطلاع القطب الشمالي، فذلك يختلف تمامًا عما إذا كنت تخبرهم أنك ذاهب إلى الاستجمام في تايلاند أو ماليزيا أو جزر المالديف. هنا المخاطرة أكبر، فقد تنهال عليك أسئلة aمختلفة من كلّ حدب وصوب: من أين ستبحر كاسحة الثلوج؟ هل هي آمنة؟ ألا تخشى على حياتك من الاصطدام بجبل جليدي؟ وغير ذلك من أسئلة تضخّها المخيلات التي غذّتها أفلام هوليوود بلحظات مرعبة وخطيرة عن القطب الشمالي، لكن السؤال الأهم الذي قد تواجهه هو: لماذا؟.

رحلة السحر والغرابة والمغامرة
لماذا يقرّر الإنسان قطع بطاقة للسفر على متن (يامال) إلى القطب الشمالي؟ هل هو حسّ المغامرة واكتشاف المجهول أم مجرد التباهي بزيارة مكان يكاد يكون في أقصى الكرة الأرضية؟. إجابات الركاب على متن إحدى الرحلات كانت مختلفة: أحدهم حجز مقعدًا على متن السفينة لأن الأمر بدا جديدًا وغريبًا، ورجل آخر وجد في الرحلة سحرًا خاصًّا، لأن هوايته الوحيدة تكمن في زيارة الأمكنة الأخطر في العالم، وهو يقول: إنها هواية تضاهي هوايات أخرى، كجمع الطوابع، أو السيارات. وتقول امرأة إنها وجدت أن الرحلة إلى القطب الشمالي ستخوّلها رؤية حياة برية وطيور وحيوانات ونباتات مختلفة، فلم تتردد في الحجز. أما الزوجان الشابان فقرّرا أن يكون القطب الشمالي وجهتهما لإمضاء شهر العسل، لأن الفكرة جديدة، ولم يسبقهما إليها أحد.
هناك عدة أسباب لاتخاذ قرار السفر على متن (يامال)، فقد كافح الإنسان مدة 300 عام للوصول إلى القطب الشمالي الجغرافي، سار على آلاف الكيلومترات فوق الجليد، واستعمل المزلاجات والمعدات الخاصة، ومع ذلك لاقى كثيرون حتفهم. أما اليوم فالأمر يختلف تمامًا، ففي ستة أيام على متن كاسحة الجليد يمكنك الوصول إلى الجهة المطلوبة من دون أيّ خطر على حياتك، لأنها عالية التطور والتجهيز.

يامال.. سمكة القرش النووية
تنطلق (يامال) عادةً في رحلاتها من ميناء مورمانسك بشمال روسيا، ومنذ اللحظة الأولى فهي تخطف أنفاس المسافرين على متنها بعلوّها الشاهق، وأسنان القرش المرتسمة على مقدمتها. لكن تجدر الإشارة إلى أن كاسحة الثلوج ليست مخصّصة لغرض السياحة فقط، فأسطول كاسحات الجليد الروسي يعمل تسعة أشهر في السنة للإبقاء على الممرات البحرية في شمال روسيا مفتوحةً أمام الملاحة التجارية عبر إزالة الجليد، لكن في الصيف عندما ينحسر الجليد تقوم الحكومة الروسية بتأجير (يامال) لمشغّلي الرحلات السياحية. حتى اليوم، فإن معظم المسافرين على متن (يامال) هم من أوربا والغرب، من ألمانيا وسويسرا تحديدًا، وهناك أيضًا كثير من السياح الأمريكيين والأستراليين والبريطانيين والنيوزلنديين ممن يقصدونها، بينما يبدو أن السياح العرب لم يتعرّفوا كاسحة الثلوج هذه بعد.

سفر مريح على صوت قرقعة الجليد
بحسب شهادات الركاب، فإن السفر على متن (يامال) مريح جدًّا، ويضاهي الرحلة على متن أيّ سفينة فاخرة أخرى، سواء من حيث الأثاث والمفروشات والخدمة، أم الستائر التي تحجب أشعة الشمس مدة 24 ساعة عندما يحين موعد النوم، لأن النهار كالليل في القطب، يدوم كلّ منهما ستة أشهر متواصلة. وعلى بُعد 36 ساعة من الميناء الروسي حيث جهة الانطلاق تبدأ كاسحة الجليد بالاحتكاك بالجليد وكسره، وهو ما يمنح الركاب على متنها متعة إضافية، فمع أنهم يُصابون بالرعب للوهلة الأولى بسبب الضجيج العارم الصادر عن قرقعة الجليد، وبسبب رجة الاحتكاك، إلا أنهم سُرعان ما يعتادون الأمر، ويصبح طبيعيًّا لكثرة تكراره. لكن الجميع يفتتن المرة تلو الأخرى بطريقة كسر الجليد، ودفعه جانبًا، علمًا أن الجليد ليس شديد القساوة، لأن الشمس لا تغيب أبدًا في الصيف، والحرارة تبلغ درجتين تحت الصفر، وهو ما يساعد على نشوء برك صغيرة تجذب الدببة القطبية التي تحيّي المسافرين من بعيد. وللمزيد من المتعة، يحظى المسافرون بإمكانية القيام برحلات قصيرة فوق كاسحة الجليد على متن طائرات هيلكوبتر خاصة، ثم فوق المنطقة لاستكشاف الحياة البرية الجميلة جدًّا. كما تنظّم رحلات استكشافية خاصة إلى الشاطئ، إضافةً إلى وجود فريق خاصّ لتقديم الإرشادات والمعلومات، والإجابة عن كل الأسئلة التي تخطر على بال المسافرين. أما داخل السفينة العتيدة، فهناك مجموعة من المرافق التي تسهّل الرحلة، وتجعلها أكثر متعةً، إذ توجد مكتبة رائعة، وملعب صغير لكرة اليد، ومكان للعب الجمباز، وبركة داخلية للسباحة بمياه ساخنة طبعًا، وساونا. ويبدو في النهاية أن هذه الرحلة العجيبة تستحقّ كل هذه الأموال الطائلة!!