«كثير من الناس لا يعرف الفرق بين الفراشة (Moth) وأبي دقيق (Butterfly) ويطلقون اسم فراشة على النوعين، فالفراشة مع تفاوت أحجامها وألوانها تتميز بسمك جسدها مقارنة بأبي دقيق، كما أن لها قرونًا شبكية تشبه، إلى حد ما، هوائي التلفاز التقليدي، وألوانها عادة ما تكون باهتة، وكثير من أنواعها يُعد آفة زراعية تجتاح الحقول وتدمر المحاصيل، وبعضها الآخر على النقيض من ذلك، إذ يُعد من الحشرات المفيدة جدًا كفراشة الحرير المعروفة التي يستخرج منها الحرير الطبيعي، وتضع أنثى الفراش بيضها على أوراق الأشجار والنباتات وأغصانها، فتفقس في غضون أيام أو عدة أشهر حسب النوع، فهناك يرقات نهمة تسمى اليساريع بالعربية ومفردها يسروع، وبالإنجليزية (Caterpillar) تلتهم أوراق النباتات بشراهة وشهية مفرطة ما يجعلها تنمو إلى أضعاف حجمها عند الفقس آلاف المرات، وتشبه اليساريع في تكوينها دودة الأرض، إلا أنها أكبر منها، وتتكون من 14 حلقة ولها ثلاثة أزواج من الأرجل الأمامية في الحلقات الصدرية الأمامية بمخالب قوية وزوج في الحلقة الأخيرة الخلفية يساعدها على التعلق بالأغصان، فضلاً عن وجود أربعة أزواج من الأرجل الكاذبة في الحلقات البطنية. وتجيد اليساريع فن التمويه وتقمص ألوان البيئة المحيطة بها، وبعد عدة أسابيع تبدأ اليساريع في البحث عن أماكن تخفيها عن الأنظار والتعلق بغصون الأشجار أو ما أشبه، وتبدأ بالتشرنق عن طريق لف نفسها بخيوط الحرير، بعدها بنحو شهر أو أكثر حسب نوعية الحشرة وتقلبات الأجواء تتحول إلى فراشة، وتحلق في الفضاء الرحب لتعيد دورة حياتها مرة أخرى. والفراشة عادة ما تطير في الليل وتتبع الأضواء، وتستخدم خرطومها المرن لتمتص غذاءها من الرحيق وما هو على شاكلته، وقد تصل بأعدادها إلى الملايين في بعض المناطق الاستوائية، وتغطي مساحات هائلة من أراضي الغابات، وتذكر بالآية القرآنية الكريمة التي تصف حال البشر في ارتباكهم وتجمعهم حين البعث والنشور في قوله تعالى في سورة القارعة }يوم يكون الناس كالفراش المبثوث{ أي المنتشر على الأرض، ويندفع الفراش في السماء لدرجة أنه يغطي قرص الشمس في بعض الأحيان.

أبو دقيق
أما «أبو دقيق» فله شكل مغاير إلى حد ما، ويتميز بجسد نحيل وقرني استشعار طويلين وخرطوم يلتف على نفسه، وعادة ما تكون أجنحته كبيرة مقارنة بجسده وذات ألوان زاهية جميلة، ويجيد فن التمويه كالفراشة، خصوصًا عندما يكون وسط جناحيه عينان كاذبتان تخيفان الأعداء، ويطير أبو دقيق غالبًا بالنهار ويتنقل بين الأزهار ليتغذى على رحيقها، وتضع أنثى أبي دقيق بيضها على أوراق الأشجار وأغصانها، خصوصًا أشجار الحمضيات، وبعد فقسها تبدأ يرقاتها بالتهام الأوراق بشراهة كبيرة حتى تتحول إلى يساريع ضخمة في مدة وجيزة، عندها تبحث عن أماكن لتختفي فيها عن الأنظار، كما هو الحال مع يساريع الفراش وتلصق أجسادها الطرية عليها أو تتعلق في أغصان الأشجار بعيدًا عن الأيدي حتى تجف وتتحول أجسادها إلى شرانق دون الحاجة إلى لف نفسها بخيوط الحرير كما تفعل يساريع الفراشات، ثم تتحول في نهاية المطاف إلى أبي دقيق كامل يشق الشرنقة ويخرج إلى الحياة ليبدأ دورة أخرى حافلة بالإعجاز الخلقي.

حديقة بينانج للفراشات
بعد النجاح الذي حققته حدائق الفراشات في أوروبا، خصوصًا في بريطانيا التي انتشرت فيها تلك النوعية من الحدائق في طول البلاد وعرضها حتى وصل عددها إلى 50 حديقة في نهاية عام 1980، عندها تبلورت فكرة إقامة حديقة فراشات في ماليزيا لدى عالم الأحياء ديفيد جوه، وفي عام 1986 تحقق حلمه بافتتاح أول حديقة للفراشات في منطقة خط الاستواء وفي جزيرة بينانج بالتحديد، وكاد مشروعه يتعثر لولا إصراره على تجاوز كل العقبات وتصديه بقوة لمنتقدي مشروعة على أنه ربما أفضى إلى خلل بيئي يسهم في القضاء على الأنواع المهددة بالانقراض. وتحوي الحديقة التي تقارب مساحتها العشرة آلاف متر مربع ما يربو على 4000 فراشة مختارة من 120 نوعًا تنتشر في ماليزيا وما حولها، فضلاً عن اليرقات واليساريع وما يزيد على 300 نوع من النباتات والأشجار الاستوائية، وزعت بطريقة طبيعية يتخللها نهر صغير وضع عليه جسر خشبي ليعبر بك من رتابة الواقع إلى أحلام اليقظة، وفي أقصاه تل صخري ينحدر منه شلال عذب ترفرف الفراشات وأبي دقيق فوقه لتزيده جمالاً. والحديقة برمتها عبارة عن بيت محمي ضخم عالي السقف، مفصول تمامًا عن العالم الخارجي لمزيد من التحكم بالحرارة والرطوبة اللازمتين لمختلف أطوار حياة الفراشة، ويسترعي انتباهك تلك الفراشات الضخمة التي قد يصل امتداد جناحيها إلى 10 سنتمترات، وتحس بقلبك يتنقل معها قبل عينيك، ووزع النكتار والرحيق الصناعي بطريقة تحاكي الطبيعة وبمذاقات متعددة تتذوقه الفراشات بأرجلها قبل أن تمتصه بخراطيمها.

متحف الحشرات
في جانب آخر من الحديقة وفي مبنى شبه مستقل يوجد متحف صغير، عرضت فيه مختلف أنواع الفراشات العالمية المحنطة واليرقات والبيض واليساريع المحفوظة في سوائل داخل زجاجات متفاوتة الأحجام، ومن المفارقات الطريفة وجود أبي دقيق الحاكم الذي ينتشر في مدينة الرياض من ضمن المحنطات، واللافت للنظر وجود تلك الأعداد الكبيرة من الحشرات الاستوائية المحنطة، أيضًا، داخل إطارات خشبية جميلة بأشكالها وألونها الغربية خصوصًا تلك التي خلقها الله لتجيد فن التخفي والتمويه عن أعين المفترسات مثل حشرة العصا والتي تشبه، إلى حد كبير، غصن شجرة جافًا، وحشرة أخرى تحمل صفات أوراق الأشجار نفسها وشكلها ولونها التي تعيش فوقها وعليها، وخنفساء الخرتيت السوداء الضخمة بقرونها الطويلة التي غالبًا ما يحرص اليابا نيون على اقتنائها وشرائها بأغلى الأ ثمان لاستخدامها في مصارعة الخنافس التي تشتهر بها اليابان، وتُعد حديقة الفراشات ببانينج، فضلاً عن كونها متنزهًا سياحيًا، من المراكز المهمة للأبحاث والدراسات العلمية، ويتقاطر إليها علماء الأحياء والطلبة باستمرار من جميع أنحاء العالم بغية الاستفادة العلمية من ذلك الزخم الهائل من الكائنات الحية، والمجموع بحرفية مذهلة تحت سقف واحد، وتعمل الحديقة في الوقت ذاته على حماية بعض أنواع الفراش وأبي دقيق المهددة بالانقراض ومن ثم بثها في مواطنها الأصلية، على الرغم من أن الكثير من أنواعها لا تتكاثر في الأسر فيعمد المركز إلى جمع بيضها من الغابات وبعد تحولها إلى فراشات يقوم بإطلاقها في مواطنها الطبيعية، كما تقوم الحديقة ببيع الفراش وأبي دقيق الماليزي إلى مراكز تربية الفراش وحدائقه في جميع أنحاء العالم، خصوصًا لحديقة عالم الفراش في نبع كوكونت في ولاية فلوريدا الأمريكية التي افتتحت عام 1988 وتعد من أكبر الحدائق ومراكز البحوث الإحيائية.