قال محمود لأبيه سامي: يا أبتِ لقد اهترأ حذائي وأحتاجُ إلى حذاءٍ جديد، وقال الأب سامي: على الرحبِ والسعة، غدًا إنْ شاء الله بعدَ أنْ تعودَ من المدرسةِ نذهبُ معًا إلى السوق وأشتري لك حذاء. وفي اليوم التالي اتَّجه الأبُ بصحبةِ ولدِه محمود إلى السوق، ومرَّ الاثنان قبالةَ متجرٍ للأحذية يعرضُ نماذجَ من الأحذية، ووقف الاثنان أمامَ واجهةِ المتجرِ الزجاجية يتأملان الأحذية، قال محمود: انظر يا والدي إلى هذا الحذاء ذي اللونِ البني، فقد أعجبني، ودخل الاثنان المتجرَ ورحَّبَ بهما صاحبُه ودعاهما إلى الجلوسِ وسألهما عن طلبِهما، فأخبره الأب بأنه يريدُ حذاءً لولده. وسأل البائعُ عن اللونِ والنموذجِ والمقاس، فأخبره محمود، ومضى البائعُ إلى بابٍ في صدرِ المتجر ودخل من خلالِه وأحضر حذاءً وقدَّمه إلى الأب سامي.
أمسك الأبُ بالحذاءِ ودقَّقَ النظرَ فيه ثم أعاده إلى البائع وقال له: إني أريد حذاءً من الجلدِ الطبيعي ولا أريدُ حذاءً من الجلد الصناعي. فاستجاب البائعُ للطلبِ فأحضر الحذاءَ المطلوب, وجرَّب محمود مقاسَ الحذاءِ ولبسه ثم خطا خطوتين وقال لأبيه إنه جيِّد. وسلَّم الأبُ البائعَ ثمنَه، ولفَّ البائعُ الحذاءَ في
علبةٍ ودفعه إلى محمود.
كان سرورُ محمود بالحذاءِ الجديد كبيرًا، وسأل أباه وهما متجهانِ نحو البيت فقال: لِمَ رفضتَ الحذاءَ الأول وطلبتَ حذاءً من الجلدِ الطبيعي؟ أجاب الأب: لأنَّ الجلدَ الطبيعي أشدُّ متانةً وقوةً وتحملاً، فهو أفضلُ من الحذاءِ المصنوع من الجلدِ الصناعي الذي يُصنعُ من المواد النفطية «البترولية». وسأل محمود أباه: من أيِّ الجلودِ يُصنعُ الحذاء؟
قال الأب: إنَّ جلودَ الحيوانات جميعها تقريبًا تصلحُ للاستعمال إذا دُبغتْ، وأكثرُ الحيواناتِ التي تُستعملُ جلودُها: الغنم والماعز والبقر والجمال والأفاعي والتماسيح وسمك الحوت وجلد الأيائل. سأل محمود أباه: وهل يستعملُ الجلدُ كما هو بعدَ ذبحِ الحيوان؟ أجاب الأب: لا يا بُنيَّ، إذْ لا بُدَّ من دباغةِ الجلد، وسأل الابن: وما دباغةُ الجلدِ؟ فقال الأبُ سأشرحُ لك: بعدَ أن يُذبحَ الحيوانُ ويُسلخَ جلدُه يُرسلُ إلى المدبغةِ، وهي مكانُ تهيئة الجلودِ للاستعمالِ، فيُنزع الشعرُ عن الجلد، ويمشط بسكين خاصة من داخلِ الجلد، حيث يقشر ما عَلِقَ بالجلدِ من بقايا اللحمِ أو الدهنِ، حتى يصبحَ الجلدُ نظيفًا من الشوائب، ثم يغسلُ بالماءِ جيدًا ويُعرَّضُ لعمليةٍ معقدةٍ، أذكرُ لكَ خُطوطَها الرئيسة، إذ يغطى الجلدُ بطبقةٍ من المواد الكيماوية، أساسُها الكلس والكاربونات والملح، ثم يُترَكُ تحتَ أشعةِ الشمسِ فتتفاعلُ الموادُ مع الجلدِ وتُغيِّرُ طبيعتَه فلا يفسدُ إذا تعرَّض للماءِ أو الضوءِ أو الاستعمال.وحين الانتهاءِ من هذه المرحلة يصبحُ الجلدُ قاسيًا متصلبًا، فيُعرَّضُ إلى عمليةِ تنعيم، وذلك بالضغطِِ عليه بآلاتٍ خاصةٍ وإدخالِه بينَ محاورَ فولاذيةٍ دوَّارةٍ، تكويه وتُزيلُ أيَّ تجعداتٍ أو بروزاتٍ فيه، حيث يصبحُ أملسَ كصفحةِ الماءِ أو صفحةِ الورقِ، ثم تُؤخذُ الجلودُ للصباغةِ فتدهنُ بالصباغ المختلف الألوان، فهناك اللون الأسود، واللون الأحمر، واللون الأزرق، واللون الأبيض الناصع، واللون الرمادي، إلى آخر ما هنالك من الألوان، حسب المتطلباتِ والرغبات، ثم تُلفُّ الجلودُ على شكلِ أسطوانات ويأتي إلى هذه الدباغات أصحابُ الحرفِ الجلدية من صانعي الملابس أو المحافظ أو الأحذية أو المقاعد، فيشترون حاجاتِهم ثم يعودون إلى معاملِهم أو متاجرِهم فيصنعون منها ما يرغبون في تصنيعِه، ويمضي أصحابُ الحاجاتِ إلى هذه المحال فيشترون منها ما يحتاجون إليه. وها نحن الآن قد اشترينا حذاءً، وهؤلاء الناس الذين ذكرتهم لك يقدِّمون خدماتٍ عظيمةً للبشر، وهم يستحقون كل شكر.قال محمود: وأنت لك عظيمُ الشكرِ يا والدي، فقد أغنيتَ معلوماتي بالمعرفة وأزلتَ الجهلَ عني وقدَّمتَ لي حذاءً يقي رجلي الأذى ويساعدني على السير.