البقرة الحرون

 

بقلم: محمد سعيد المولوي

رسومات: Erick Josef Acupinpin

 

كان في مزرعةٍ ثلاثُ بقراتٍ مختلفاتٍ في السِّن: بقرةٌ صغيرةٌ، مغرورةٌ بنفسِها، كثيرةُ الحركةِ والنشاط، تتخيرُ الطعامَ الذي تريده، وبقرةٌ تكبرُها بضعَ سنواتٍ، وهي في ريعانِ شبابِها، وهي محطُّ عنايةِ صاحبِها الفلاح، حيث كان يقدِّمُ لها أنواعَ الطعامِ من شعيرٍ ونخالةٍ وحشائشَ، لأنها كانتِ البقرةَ الأكثرَ عطاءً للحليب صباحًا ومساءً، وبثمنِ هذا الحليبِ كان يقدِّمُ الطعامَ لبقراتِه، والبقرةُ الثالثةُ كانت هادئةً تكبر البقرتين، وكانت تدُرُّ حليبًا كثيرًا يسدُّ ثمنُه نفقاتِ أسرةِ الفلاح.
نظرتِ البقرةُ الصغيرةُ إلى أختيها وعنايةِ الفلاحِ بهما، فأصابُها الحسدُ، فقرَّرتْ أن تحتلَّ مكانَ إحداهِما، فجاءتْ إلى البقرةِ الوسطى ووقفتْ بجانبِها وأظهرتِ الحزنَ، فسألتها البقرةُ الوسطى عن سببِ حزنِها، فقالت: إنِّي حزينةٌ من أجلك، لأنَّ الفلاحَ يأخذُ حليبَك صباحًا ومساءً ولا يتركُ لك شيئًا تتغذين به، وحين كان ابنُك العجلُ جائعًا كان يأتي به إليك حتى تحنِّي ويدرَّ حليبُك ثمَّ يأخذُه جانبًا، ويأخذُ حليبَك دون أن يتركَ لابنِك ما يشبعُه، ثمَّ إنه يرهقُك فيحرثُ أرضَه بك، ويتعبُك من الصباحِ إلى المساءِ تحتَ حرِّ الشمسِ أو في بردِ الشتاء، ثمَّ إنه لا يقدِّم لك إلا القليلَ من الطعام، ويقدِّم أحسنَ الطعامِ إلى أختِنا الكبيرة، ويعاملُها معاملةً خاصةً ويفضِّلُها علينا. قالت البقرةُ المتوسطة: أنا أعرفُ كلَّ ما تقولين، ولكن ما عساي أفعل؟ فقالت البقرة الصغيرة: يجبُ أنْ نغيِّرَ حياتُنا، وما عليك إلا أنْ تمتنعي عن الأكلِ والشربِ وعن إعطاءِ الحليب، وبذلك تعاقبين الفلاحَ فيعتني بك كما يعتني بأختِنا الكبيرة.
انطلتِ الحيلةُ على البقرةِ المتوسطة، وامتنعتْ عن الأكلِ والشربِ وإعطاءِ الحليب، وحاول الفلاح إغراءَها بشتى أنواعِ الطعامِ فلمْ يفلح، وظلَّ الأمرُ على ذلك مدةً والبقرةُ لا تأكلُ ولا تشربُ حتى هزلتْ وظهرتْ عظامُ صدرِها، وجاء الفلاحُ مع زوجتِه يتحسسُ أخبارَها فوجدها باركةً على الأرضِ متهالكةً، فقال لزوجتِه: إنْ ظلت على هذه الحال إلى غدٍ فسأبيعُها إلى اللَّحّامِ ليذبحَها وينتفعَ الناسُ بلحمِها، فارتعشتِ البقرةُ رعبًا. وحين ذهب الفلاحُ قامتِ البقرةُ بصعوبةٍ ومضت إلى البقرةِ الكبيرة فحدثتها بما جرى معها، وكانتِ البقرةُ الكبيرةُ ذاتَ حنكةٍ وتجربةٍ فقالت: إنك يا عزيزتي مخطئةٌ، فالفلاحُ هو الذي يُقدِّم لنا الطعامَ والماءَ، وهو الذي يغسلُنا ويزيلُ عنّا الأوساخَ والحشراتِ التي تلسعُنا، ويُخلِّصُنا من حليبِنا لأنه لو تركه في ضروعِنا لالتهبت ومرضنا، وهو الذي يحضر لنا الأطباءَ إذا مرضنا، والدنيا كما تعلمين أخذٌ وعطاءٌ، فلا يصحُّ أنْ نأخذَ دونَ أن نعطي، وأنَّ ما نصحتك به أختُنا خطأ وكاد يوصلك إلى الموت، فعودي إلى ما كنت عليه وكلي واشربي، فالكائنُ الحقيقي هو الذي يعطي مقابلَ ما يأخذُ حتى تنسجمَ الحياة.
جاء الفلاحُ صباحًا ليأخذَ البقرةَ إلى السوقِ، فوجدها ترعى في الحقل، فقال: الحمدُ لله أني لمْ آخذْها إلى السوق، وملأ لها دلوًا من الماءِ فسقاها وراحت تلحسُ وجهَه وهو يمسحُ بيدِه على رأسِها.
وهكذا فإنَّ الإنسانَ يجبُ ألا يكونَ أنانيًا يحبُّ الخيرَ لنفسِه فقط، وألا يستمعَ إلى وشاياتِ الدساسين، وأنْ يأخذَ عِبْرةً من كلِّ الكائناتِ ولو كانت بقرًا.