مدرج الكولوسيوم..
المتعة في مواجهة الموت!
لطالما كانت الأساطير التاريخية ذات وقع خاص على عاطفة الإنسان، فكيف إذا ارتبطت الأسطورة بمكان صامد لأكثر من ألفي سنة مخلفة وراءها أحجارًا تكاد تنطق، راويةً حكايات عما مرَّ عليها من غزاة صنعوا التاريخ؟ تقول الأسطورة «ما دام الكولوسيوم حيًّا ستبقى روما حيّة، وحين تسقط روما سيسقط العالم بأسره».
كثيرون يأتون إلى روما ويكون الكولوسيوم ضمن أماكن زيارتهم، إلا أن القلة منهم تقرأ في أحجاره ذلك التاريخ الموغل في القدم. لقد بني هذا المدرج الجماهيري في عشر سنوات، بدأت في عام 70ق.م، على يد الحاكم الروماني فيسباسيان الذي أراده أن يكون نصبًا يرمز لنهضة روما بعد أن أحرقها نيرون وأهلك أهلها بالضرائب الاقتصادية. شُيِّد هذا المبنى الضخم ليتسع لخمسين ألف مشاهد في وقت واحد، في الوقت الذي أمر فيه فيسباسيان بإنشاء 250 مدرجًا آخر لترفيه شعبه وإنعاشهم بعد سنوات الاضطراب، إلا أن الكولوسيوم صمد كأكبر شاهد على عظمة الحضارة الرومانية. وكما أن للكولوسيوم تاريخًا مشرقًا إلا أن جنباته شهدت على مدى وحشية الرومان، وذلك بعد أن ظهرت خلال القرن الثالث قبل الميلاد لعبة دموية تُعرض على أرض الكولوسيوم ويستمتع بمشاهدتها كثير من الرومان. بدأت هذه اللعبة خلال غزواتهم وحروبهم الكثيرة، حيث يكون هناك، دائمًا، أسرى الحرب، يقتادون إلى روما بغرض تسلية الشعب، فيقومون بتجريد الأسرى من أسلحتهم ثم يزودونهم بأسلحة خفيفة كالخناجر والسكاكين، ويضعونهم في مواجهة مع مجموعة من الجنود الرومان المدججين بأقوى الدروع والأسلحة. ونتيجة لعدم التكافؤ كانت نتيجة اللعبة موت الأسرى بشكل عنيف ووحشي. ومع مرور الزمن أضاف الرومان أساليب دموية جديدة للعبة كان أشهرها أن يجبروا الأسرى على مقاتلة بعضهم حتى الموت، وأحيانًا كان عليهم مواجهة الحيوانات المفترسة بخنجر صغير. وما لبث أن أصبحت هذه اللعبة الوحشية الأكثر شعبية لدى الجماهير الرومانية، فأنشئت مدرسة لتدريب المقاتلين المحترفين «الجلادييتورز» وأصبحت لها قوانين وطقوس تسمى حلبة الموت الرومانية.
تمت تصفية نصف مليون أسير أو محكوم بالإعدام داخل هذه الحلبة من أجل الترفيه، وكان الكولوسيوم هو المكان الذي أزهقت فيه تلك الأرواح. في مطلع القرن السادس للميلاد تم حظر منازلات الكولوسيوم نهائيًا، ومنذ ذلك الحين تم استخدامه لأغراض أخرى. تعرض البناء في جزء منه إلى انهيار كبير نتيجة لهزة أرضية فتكت بجداره الخارجي، تم استخدام أحجاره المتساقطة في بناء العديد من القصور التي حولت إلى متاحف في زمننا الحالي.
سر هندسته
لم يعرف العالم سر العمارة الرومانية المتمثلة في الكولوسيوم والتي ضاعت مع سقوط الإمبراطورية إلا في القرن الثامن عشر الميلادي، لقد كانت الخرسانة الرومانية والحجر الجيري اختراعًا ثوريًا في ذلك الزمن. أما الأعجوبة التي لا يزال علماء الآثار يجهلون أسرارها هي كيف كان يتم إغراق حلبة الكولوسيوم بالماء وتُجلب السفن والقوارب الحربية لتخوض المعارك البحرية داخل جدران المدرج.
يبلغ طول الكولوسيوم 190 مترًا، أما عرضه فهو 155 مترًا، يستحوذ منه ميدان القتال نحو 85 مترًا طولاً و55 مترًا عرضًا، ويبلغ ارتفاع الجدار الفاصل بين المشاهدين والميدان 4.5 متر. يتألف الكولوسيوم من أربعة طوابق، يتكون الطابقان الأول والثاني من أعمدة على الطراز الإغريقي، ويليهما طابق تحمله أعمدة من النوع اليوناني، وهي طبقة خاصة للنخبة، أما الطابق الرابع فقد أضيف إلى المبنى لاحقًا. يوجد به ثمانون مدخلاً تنقسم إلى ثلاثة ممرات: المسرح، المنصة، ومقاعد المتفرجين، يوجد منها أربعة مداخل خُصِّصت للإمبراطور وحاشيته. إن هذا المدرج الروماني يُعد من أكثر آثار مدينة روما جذبًا للسياح، كما تم تحويله من رمز للوحشية إلى أيقونة لإلغاء عقوبة الإعدام في العالم، حيث يتم تبديل إنارته من اللون الأبيض إلى اللون الأصفر خلال تنفيذ أي عملية إعدام يُعرف بها حول العالم. في السنوات الخمسين الأخيرة أقيمت حفلات موسيقية لأشهر المغنين العالميين في ساحته الخارجية مثل فريق البيتلز وأشهر مطربي الأوبرا، إلا أنها خفّت نتيجة احتجاجات جمعيات الحفاظ على الآثار التاريخية التي رأت أن هذه التجمعات الكبيرة سوف تعرِّض أحجار الكولوسيوم للانهيار بوقت أسرع.
مكان سينمائي
استخدم الكولوسيوم كمسرح تصوير للعديد من الأفلام الهوليوودية معظمها تناول روايات عن حياة المقاتلين وصراعهم مع الظلم ومعاناتهم داخل حلبة الموت. أشهرها فيلم الممثل الأسترالي راسل كرو في فيلمه Gladiator والذي رُشِّح لـ17 جائزة سينمائية، نال منها أربع جوائز أوسكار، إضافة للعديد من الجوائز السينمائية الأخرى مثل الجولدن جلوب.
الفيلم الآخر تم إنتاجه عام 1960 وتناول سيرة سبارتاكوس الرجل الشجاع الذي تم أسره ليصبح عبدًا مملوكًا ومن ثمَّ مصارعًا، ليقوم بعد ذلك بثورة العبيد التي قادها ضد الرومان وهددت كيان الإمبراطورية.