يوفيل..
سحر الخزامى الإنجليزي
كانت بلدة يوفيل، التي تنضم مع القرى الريفية لـسمرست وتعد ريفًا إنجليزيًا يشار إليه بالجمال، تستقبل صيفًا جديدًا ملونًا باللافندر والأزهار التي يستزرعها سكان تلك المدينة الصغيرة على شرفاتهم، لكن النسمات الباردة التي تتطفل على الوجوه بعد الساعة السادسة مساءً، تجعلك تتساءل: هل يوفيل تعيش صيفها حقًا؟!
تنبسط يوفيل على مساحة لا تتعدى 28 كيلو مترًا مربعًا، وتبعد عن لندن بحوالي ثلاث مئة كيلو متر. سكانها خليط من الإنجليز والبولنديين المهاجرين.. أما أغلب مساحات مزارعها فتخصص لزراعة حشائش خضراء تصل إلى نهاية الساق. تحصد وتلف على شكل أسطوانات كبيرة، وتغلف بالبلاستيك الأسود المتين في فصل الصيف لتكون مؤونة للأبقار في فصل الشتاء القادم.
ما يميز يوفيل أنها عاصمة ريفية بامتياز لسمرست، إذ تقع في قلب الريف الإنجليزي، كما تعد مثوى أخيرًا للشاعر تي.اس. اليوت حيث يقع قبره في ضاحية شرقية من المدينة، أما عدا ذلك فهي بلدة إنجليزية تشبه ستريت وبروتون وكاستل كاري، وتفتح لك ذراعيها لتكتشفها عن قرب مشيًا على الأقدام.
مسرح للأفلام والقصص
لأول وهلة تبدو يوفيل ببيوتها وشوارعها الصغيرة مسرحًا من مسارح قصص أجاثا كريستي البوليسية، لكنها بلا ضحايا أو قتلة هكذا ستبدو لك. حتى وأنت تمرّ من أمام مصنع نسيج القطن الذي هُجر بعد أن التهم جزءًا منه حريق كبير اندلع منذ مئة عام مضت تاركًا يوفيل بلا مصنع قطن.. فعند مرورك به ستستشعر أجواء غرائبية مع بنائه الذي يشبه قلعة عتيقة مهجورة تدعوك أن تسترق النظر من خلال زجاج نوافذها المتسخ، فتطالعك تفاصيل قديمة من أنوال النسيج وبعض بكرات الخيوط الكروية الملقاة على الأرض. تترقب مع هذه الأجواء الساحرة حدثًا يشبه أحداث الأفلام المثيرة والمرعبة كأن تتحرك الأنوال فجأة، فالمكان يشبه مسرحًا لفيلم بين الرعب والإثارة، لكن انتظارك سيطول، لذا ستمضي مع شارع بريستون الذي جعل منه المصنع العتيق ينثني قسرًا. يُعد شارع بريستون أطول شارع في مدينة يوفل، فهو يقطعها عرضًا ليكون بريستون غربيًا وشرقيًا.. على جانبي الشارع تقع المقبرة التي تجاوز عمرها مئات الأعوام، والحديقة، ودار العناية بكبار السن، وعدد من المنازل ذات الشرفات المزروعة لافندر، ودكاكين متفرقة تعد على أصابع اليد الواحدة، ومطاعم فيش آند تشيبس الصغيرة، والكثير من الهدوء. لا يبعد شارع بريستون عن «مارش لاين» حيث أسكن سوى عشرين دقيقة مشيًا على الأقدام، فبالرغم من وجود فنادق عديدة في يوفيل إلا أن السكنى في مزرعة إنجليزية تعد تجربة غنية أمام فنادق هذه البلدة التي أجمل ما تقدمه الإفطار الشهي المميز. أغلب فنادقها ذات ثلاثة نجوم ما عدا ثلاثة أحدها يقع على أطراف يوفيل ويدعى «يوفيل كورت»، والثاني فندق «مانور» ويقع في وسط البلدة، أما فندق «ذا كنج أرمس ان» الذي بني في القرن الثامن عشر وصورت فيه مشاهد فيلم سينس آند سينسبيلتي، الحاسة والعاطفة، فهو سكن مثير بامتياز. كل هذه خيارات مطروحة للسكن في يوفيل، ولكن ربما ساق لك الحظ أن تختار سكنًا خاصًا كالذي سكنته.
سكن خارج المألوف
من مارش لاين كنت أقطع نهار الصيف الطويل في هذا الريف بالمشي الذي أصبحت أألفه.. تاركة وسيلة باصات النقل العام التي تبدأ من السادسة صباحًا ولا تتوقف إلا عند السابعة مساءً لكبار السن والمتعبين، لذا كنت أمشي لتحملني قدماي لأي مكان شئت، فلربما قادتني لمغامرة ساحرة في مدينة لا يعرفها السياح. لم يكن المشي مضنيًا أو غير آمن في يوفل، بل كان رتيبًا وهادئًا مع صوت طيور صغيرة، أو خطفات السناجب التي تعبر الطريق العام.. فتفلت أحيانًا قفزًا من تحت إطارات سيارة مارقة، وأحيانًا أخرى لا تسعفها القفزات فتكون ضحية دامية لعبور فاشل وقفزة خرقاء. كان المنظر مؤلمًا بالنسبة لي، لذا كنت أقول لمن هم برفقتي ونحن نمشي على رصيف بريستون: أرجوكم، لا تنبهونني لحوادث السناجب.
مزرعة مارش لاين قطعة من جنة الدنيا، والوصول إليها لا يتطلب مني عندما أعود من شارع بريستون إلا عشرين دقيقة أمر فيها بشارع كلية يوفيل الذي لا نستطيع أن نرى فيه الشمس من شدة تشابك الأشجار بين الجانبين، ثم أنعطف يمينًا لشارع كومبيو. وفي حي كومبيو السكني الهادئ أجد أشجار الكرز وصندوق البريد الأحمر.. وكابينة الهاتف الحمراء.. فسميته مجازًا الشارع الأحمر.
عندما أصل لنهاية كومبيو أقف وألتفت يمينًا.. ثم يسارًا لأقطع شارع مارش لاين، وهو خط مزدوج برصيفين صغيرين على كل جانب. بعدها أهبط لدحل مارش لاين الذي تتواتر على يمينه ويساره المزارع الصغيرة وبعض البيوت الأنيقة بإصيصاتها المزروعة وردًا ولافندر. هذا الدحل لا يتسع إلا لسيارة واحدة, وإن صادف وتقابلت سيارتان فعلى إحداهن أن تتوقف في جانب الطريق الأكثر اتساعًا، وعلينا نحن أن نلتصق بسور أحد البيوت، أو نصعد أرض إحدى المزارع غير المسوّرة. كان طريق مارش لاين هابطًا عند العودة إليه، وكأنه يحث خطانا للوصول إلى نهايته.. حيث مزرعة مارش لاين التي نسكنها هذا الصيف. عندما نصل لها علينا، أيضًا، أن نصعد إليها وكأنها جنة على هضبة. قطعة من الجنة هذه المزرعة التي تمتلكها تلك العجوز الإنجليزية، والتي بإمكان الوصول إليها لاستئجارها من خلال مكاتب العقار في يوفيل، أو في صفحة الإعلانات المبوبة في الصحيفة المحلية. في حياتي لم أحسد عجوزًا كما حسدت مارجريتا على مارش لاين وعلى فصول الصيف التي تعيشها, كانت كل التفاصيل منثورة في مساحتها الخضراء، والتي لا يتتبعها ولا يفعلها سوى عاشق أضناه الهوى فـ هوى! ممر الورد.. كرسي الغروب.. تماثيل فينوس.. وأزهار اللوتس في بحيرة صناعية.. وكراسٍ حجرية.. وتماثيل حجرية لسناجب متعانقة، وبجع راقص. كل هذه التفاصيل الجميلة مضنية مع الوحدة.. موجعة بلا رفيق حقيقي، لذا عند ذهابك ليوفيل انتق رفيقًا يستمتع بالجمال والطبيعة، ويعشق الهدوء حيث الهدوء شفاء، فما أشنع وجع الحالمين!كان بيت مارجريتا مقابلاً للبيت الذي نسكنه في هذه المزرعة الجنة والذي نصفه مبني بالحجر العتيق والنصف الآخر مبني بألواح الجبس. كان النصف الآخر عبارة عن غرفة للجلوس بطول 12 مترًا وبعرض ستة أمتار يتوسطها مدفئة وجهاز تلفاز وطقم كنب أزرق.. بينما في الطرف الآخر طاولة طعام بثمانية كراس. أما أطراف هذه الصالة فتتوزع فيها كنبات استرخاء، ومكتبة للكتب ولألعاب الأطفال التي تعتمد على الذكاء.. كانت أرضية صالة الجلوس مفروشة بالسجاد الأزرق، وجدرانها مكسوة بورق جدران أصفر ذي ورد نافر وأربع نوافذ كبيرة تطل على الخارج.. اثنتان باتجاه الغرب، واحدة منها تطل على بيت مارجريتا ومنها أراقب السنجاب الذي لا ينام، والأخرى تطل على البعيد. أما الشرقية فتطل على الممر الحجري والمستودع القديم، والأخيرة كانت هي نافذة التراس الكبيرة والتي أخرج منها عندما أرقب البقرات البعيدة وهي ترعىفي مارش لاين لا صوت للكلاب ولا للأبقار ولا لـ قطة مارجريتا.. كان السكون يخيم على المكان وكأن الصوت سيخدش سمع هذا الجمال المتناهي.
الوجه الآخر للجمال
وسط المدينة.. عالم الضجيج العجائزي، حيث العكازات، والكراسي المتحركة، وأجساد أضنتها الكهولة.. فلأول مرة أرى مدينة كـيوفيل يتوازى فيها عدد الشباب مع عدد كبار السن، ربما أستطيع أن أحصر الوجود الشبابي في أماكن محددة كـ(برجر كينج) للوجبات السريعة و(ستار بكس) ومحل لوشم الأجساد. وسط المدينة في يوفيل هو عالم يوفيل الضاج، حيث توجد المكتبة العامة ومركز البريد الذي بإمكانك أن تبعث منه ببطاقة بريدية لصديق في أقصى الشرق، وتعيش تفاصيل حياة بعيدة عن التقنية، كما بإمكانك أن تدخل المكتبة العامة لتبعث ببريد إلكتروني لصديق آخر بالمجان! وستجد أكثر من تسعين محلًا لبضائع مختلفة، وسينما، وملعبًا للبولينج، ومطاعم أمريكية للوجبات السريعة ومطعمًا تايلنديًا وآخر هنديًا، بالإضافة إلى ساحة التجار، حيث يتجمع بائعو القرى المجاورة يومي الجمعة والإثنين وينشرون بضائعهم المختلفة على طاولات خشبية من أغذية وملابس رخيصة مصنوعة في الصين، ولحوم مقددة. كان «الداون تاون» هو الدليل على أن يوفيل مدينة، فهو الصخب والتسوق والسينما والمطاعم والناس والعجائز والباصات التي توقف عند «بيوتي بوت» والمشردون بأظفارهم القذرة وأوشامهم الرديئة، والأصدقاء الذين تعرفنا عليهم وجمعتنا وإياهم طاولات المقاهى كـ ستار بكس، أو ذا نيرو كافيه. وسط المدينة يشي بأن يوفيل مدينة متصلة بالعالم الخارجي كمظهر، فأزياء السكيني جينز.. والكيلونات الملونة.. والشعر المنسدل بنعومة لامعة، كل هذه المظاهر على مرتادي الداون تاون وواجهات المحلات تجعلك لا تفتقد المدينة، وفي الوقت نفسه تقبض على جمال الريف. لا شيء سيئًا في يوفيل سوى أن هذا الضجيج القروي ينتهي في الساعة السادسة والشمس لا تزال في كبد السماء! في يوفيل لا تثق بالجو فلا تخرج مستكشفًا إلا بمظلتك الواقية من المطر.. فالمطر سيداهمك. لكن قبل أن تشد رحالك من هذه البلدة تأكد من أنك زرت متحف السيارات العتيقة، والذي يضم أكبر عدد من السيارات التي صنعت من القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين، وزرت بحرها وقلاعها التي تجاوز عمرها مئات السنين.