لم أعان «صدمة حضارية» أو ثقافية عندما حطت بي الرحال في الولايات المتحدة لإكمال دارساتي العليا، ربما بسبب قراءتي الكثيرة عن الولايات المتحدة ومشاهدتي لأفلام هوليود المختلفة. ولكن خلال وجودي في الولايات المتحدة على مدى أكثر من عقدين من الزمن، تعرضت للعديد من «الصدمات الثقافية» التي أثرت في تكوين شخصيتي بشكل أو بآخر. وكان أثر بعضها كبيرًا لدرجة أنني أحسست بتشنج في عمودي الفقري أو بالدم يفور في قلبي، بشكل لم أعهده من قبل. باختصار، تعرضت لصدمات حضارية هزت كياني بشكل لا يمكن أن أنساه، فقررت كتابة هذه القصص لعل أحدًا يستفيد منها في المستقبل. وهذه قصة من تلك القصص:
قررت أنا وزوجتي الوقوف عند عربة من عربات الخضار المنتشرة أمام بعض البيوت في إحدى القرى الصغيرة في ولاية أوهايو الأمريكية. ترجلت من السيارة وأنا أنظر إلى الطماطم والخيار اللذين تم صفهما بطريقة أنيقة، ثم نظرت إلى العربة للبحث عن قائمة الأسعار. لم يكن أحد بجوار العربة، وكان هناك صندوق وُضعت فيه نقود الذين اشتروا من قبلي. المنظر ليس غريبًا، خصوصًا بعد أن عشت في عدة ولايات أمريكية واكتشفت أن المزارعين وأصحاب البيوت يتركون بضاعتهم في عرض الطريق من غير مراقبة، فيقوم المشترون بأخذ ما يريدون، ثم يضعون النقود في الصندوق المخصص. ولا زلت أذكر مئات العلب المصفوفة المليئة بالعسل على طريق فرعي في جبال الروكي وأمامها صندوق مليء بالدولارات. لا أحد يأخذ البضاعة من غير أن يدفع، ولا أحد «يسرق» النقود التي في الصندوق. ما لفت نظري هذه المرة أنه ليست هناك قائمة بالأسعار. بحثت عن القائمة حول العربة لظني أن الريح التي اشتدت نوعًا ما ذلك اليوم قد أطاحت بها، ولكنني لم أجد شيئًا. عدت إلى السيارة موقنًا بأنني لا أستطيع الشراء لعدم وجود أسعار على العربة، غير أن صوت الجرار الذي يستخدم في قطع الحشائش خلف المنزل جعلني أنزل من سيارتي مرة أخرى وأدور حول المنزل. فوجدت سيدة عجوزًا منهمكة في قص الحشائش، كان واضحًا من ملابسها أنها من جماعة المينانايت(1). أوقفت الجرار لأن صوته القوي يمنع أحدنا من سماع الآخر. سألتني عما أريد، موحية بأنها مستعجلة تريد قص الحشائش قبل أن يهطل المطر. قلت لها إنني لم أستطع الشراء لعدم وجود تسعيرة على العربة. فقالت بصوت ثابت يخلو من إيقاع: «يابني، لا توجد تسعيرة. إذا لم يكن لديك نقود فخذ حاجتك من الخضراوات، وإذا كان لديك نقود فتبرع بما شئت». كانت هذه المرة الأولى التي أحسست فيها بأسفل عمودي الفقري. تجمدت في مكاني وقد اقشعر بدني، ولم أستيقظ من هذا الشعور إلا عندما سمعت صوت الجرار من جديد، والسيدة العجوز تبتعد عني باتجاه الطرف الآخر من حديقتها. أخذت ما شئت، وتبرعت بما شئت، ولا أدري كيف وصلت إلى البيت. كان هذا الشعور «صدمة حضارية»! ذات يوم في سهرة عامرة في إحدى المدن العربية، ذكرت القصة على الملأ. فانتفض أحدهم قائلاً: «هذه أخلاقنا سرقوها منا».... فهمت «هذه أخلاقنا» ولكن لم أفهم كيف قامت أمرأة عجوز من المينانايت في إحدى قرى أوهايو «بسرقة» هذه الأخلاق! تقلص عمودي الفقري، أحسست بمغص معوي شديد، ثم حرقة في المريء. لقد كانت «صدمة مضادة». كانت «صدمة حضارية» في بلاد الفرنجة، و«صدمة مضادة» في بلاد المسلمين! والله سلم «عمودي الفقري»!
(1) المينانايت مجموعة مسيحية تتميز عن غيرها بأن النساء تغطي جزءًا من شعورهن ولا يلبسن البنطلونات. وتؤمن هذه الطائفة بالحل السلمي لأي خلاف، ويحاولون أن يكونوا في المناطق الساخنة في العالم لمنع العنف، واشتهروا بدفاعهم عن الفلسطينيين وفي تشكيل سلاسل بشرية لمنع البلدوزرات الإسرائيلية من تهديم بيوت الفلسطينيين. والفتاة الأمريكية راكيل كوري التي دهسها بلدوزر إسرائيلي تنتمي إلى الطائفة نفسها.
|