دومًا، تحملك الطائرة بعيدًا، بينما أنت تحمل في رأسك كونًا أكبر: أسرتك، مكتبك، ذكرياتك، تفاصيلك، أحاسيسك.. كل هذه الأشياء تأتي معك، لا تحتاج أن تضعها في حقيبة ملابسك، هي تتوارى في العمق.
مع اللحظة الأولى التي تدلف فيها إلى صالة السفر تتداعى الصور، حاملة في ثناياها المشهد الداخلي، الذي يلتصق بك. تبتسم، تتطلع إلى الأمام، تترقب أسراب الطائرات التي تأتي وتمضي، في جوف كل طائرة حكايات متحركة: سحنات متعددة، مشاعر متناقضة، فرحة وصول، غصة مغادرة، بهجة ذهاب، ولوعة إياب.
جوهر السفر، في ذاكرة الأوائل، يقوم على الاحتياج والسعي طلبًا للرزق، السياحة للسياحة كانت فعلاً نادرًا، لكننا اليوم، لا نكاد نقتنص إجازة قصيرة أو طويلة، حتى نتدافع متجهين صوب الداخل والخارج، في سعي لكسر قاعدة المعتاد اليومي.
يضع الناس حقائبهم، ويضعون في ثناياها أحلامهم بأيام سعيدة. أكتب هذه الأسطر من المطار، بعد أن أنهيت إجراءات السفر المعتادة. جلست أتأمل في وجوه الناس. المطارات والطائرات تلهمنا أشياء كثيرة. كثيرون استوقفتهم صورة المشهد. الحقيقة أن فعل السفر بأكمله كان أمرًا يحفز على الإبداع، والتأمل، والبوح الصادق. في لحظة ما، غربة ما، نقطة ما، يبدأ الإشراق وتتدفق الكلمات، أحيانًا تأتي في وقت مبكر، وأحيانًا تأتي متأخرة تمامًا، كما هو فعل ابن زريق البغدادي الذي خرج طلبًا للمجد والرزق، فودَّع زوجته ومضى، ولكن السفر طال حتى حانت المنية، فتلفت من حوله، واستجلب من بغداد صور زوجته وراح يخاطبها:
لا تــعـذلـيـه فـإن الـعـذل يـولـعـه
قـد قـلـت حـقـًا لـو كـان يـســمـعـه
هي قصة يومية مكرورة، تتواكب معها قصص أخرى، تجد أنها ترتحل من زمن إلى زمن، تتوالد، تسلمك الأولى للثانية، فتصبح مثلاً سائرًا. ألم يقولوا إن السفر يجعلك تعيد اكتشاف الأصدقاء. رغم يسر السفر، ما زالت تلك اللحظة التي أفرزت هذه التجربة تتكرر دومًا، أنت تعيد اكتشاف أصدقائك خلال السفر، بل أجزم أنك تعيد اكتشاف ذاتك في السفر.
في المطار وفي الطائرة.. حكايات وقلوب تتعلق بالسفر، تراه طوق نجاة، أو جسرًا لهروب مؤقت أو دائم. وعلى المقعد المجاور لك، أنت ستكتشف كونًا إنسانًا آخر، له أحلام ورؤى وأفكار تختلف عنك. وعندما يحالفك الحظ وتتجاذب أطراف الحديث مع شخص دمث من مجاوريك، فستكتشف كم أن الحياة رغم اتساعها، إلا أنها تغدو أصغر، من خلال القيم الإنسانية المشتركة.
حذار: لا تنسوا قلوبكم، وأنتم تغادرون الطائرة. إذ نادرًا ما يتكرر اللقاء بالمسافر الغريب ذاته أكثر من مرة.
طيب الله أوقاتكم.
|