جازان
عـروس الـفـل

 

«علعبير الفوزانى الرغم من توديعنا لفصل الشتاء إلا أن جازان ما زالت وجهة سياحية بامتياز، حيث تتمتع بثراء غير اعتيادي من طبيعة خلابة وتراث ثقافي يجعلان السائح يتوقف عند تفاصيل جازان، بدءًا من البيوت، وصولاً إلى أطباق الأطعمة الجازانية، وانتهاءً بالفل والكادي والبعيثران.

تعد جازان منطقة المهرجانات بامتياز. ولتنوع مواردها الاقتصادية فهي تحتضن مهرجان المانجو، ومهرجان الحريد، ومهرجان الفل. ولطقسها المعتدل شتاءً استحقت أن تكون، كما نادى بها شعار مهرجان الفل «جازان الفل مشتى الكل»، أي أنها مكان ملائم لقضاء الشتاء حيث الدفء.
عبير الفوزان

 

من الجبال ومن وراء البحر
تقع جازان في الجنوب الغربي من المملكة العربية السعودية، وتعد من أهم المناطق وأكبرها مساحة، وبسبب تنوعها الجغرافي، ما بين جبال وبحر كانت بيوتها في الماضي ذات أنماط عديدة، منها البيت العشة ويتميز بالبساطة من حيث شكله الذي يشبه الكوخ، وقد بُني من الطين والأخشاب والقش، وهو يشبه، إلى حد كبير، أكواخ المنتجعات في جزر المالديف، ويعد تحفة معمارية إذ ما زُوِّد بالتجهيزات الحديثة من ماء وكهرباء. إضافة إلى نمط آخر من العمارة في فرسان وهو البيت الفرساني، وهو نمط يعكس فنًا راقيًا جاء من تأثر تجار اللؤلؤ في فرسان بدول الخليج العربي ودول المشرق والمغرب، فجاءت نقوش هذه العمارة مزيجًا فريدًا بين النقوش المغربية والشرقية، إضافة إلى منهجية بنائها الذي روعي فيه منافذ الهواء في أعلى المنازل لتخفيف شدة الحرارة في فصل الصيف. ولقد استقى الفرسانيون هذا الأسلوب من بيوت تجار اللؤلؤ في منطقة الخليج العربي، ولعل منزلي الرفاعي الأثريين في فرسان اللذين يبلغ عمرهما أكثر من ثمانين عامًا خير دليل على هذه العمارة، حيث تحول المنزلان والأراضي المجاورة لهما إلى مركز ثقافي اشتمل على مكتبة عامة. وبالعودة إلى المواد التي استخدمت في بناء هذه المنازل الفرسانية، في تلك الفترة، نجد أنها بُنيت بالصخور الكلسية وزُيِّنت بالجص الذي تتوافر مناجمه في جزيرة فرسان، بالإضافة إلى العاج والأخشاب المجلوبة من الهند. لعل جمال منزلي الرفاعي المتجلي في روعة تصميمهما يمثلان إشارة ودليلا قاطعا على أن أبناء المنطقة المشتغلين بتجارة اللؤلؤ كانوا يعيشون في مستوى معيشي مرتفع كفله لهم البحر الذي يجاورنه.
أما البيت الجبلي وهو نوع آخر من البيوت في منطقة جازان فقد بُني من الحجارة المقتلعة من الجبال والطين، ويشبه إلى حد بعيد بيوت سكان تهامة لذا سمي بالبيت التهامي، ويتميز بالعلو، وتزينه نوافذ صغيرة كما يُجمّل ويُزيَن، أحيانًا، بالآجر. وهو يشبه القلاع إذ يقف على النقيض مع البيت العشة. وكان يسكن هذه البيوت، فيما مضى، المزارعون والمشتغلين بالرعي من سكان الجبال.

الميفا والمغش
تتميز الحياة الاجتماعية في جازان بطقوس الفرح الذي يلفها مع كل موسم ومناسبة، ففي موسم صيد سمك الحريد فرح وأعراس، وفي موسم الفل فرح آخر ، وحتى مع ختان طفل يعم الفرح فتسمع صوت الطبول والأهازيج، وتشم رائحة الشواء بين عبق الفل الذي يكلل هامات النساء و نكهة الكادي في الشاي والماء. ولقرب أهل جازان من البحر فقد تطبعوا منه بحب العطاء والسماحة، كما تعلموا من وعورة جبالهم الصبر والقدرة على تخطى الصعاب. لذا كانت حياتهم خليط عجيب وجميل، فيها من المفارقات الغنية ما يجعل السائح يتردد بين الساحل الممتد والجبال الشاهقة، بين رائحة السمك ورائحة الفل.
عندما تتسلل رائحة السمك الطازج الذي يشوى على الجمر داخل الأفران الفخارية، مع رائحة الخبز، ورائحة الخضار، فأنت ستكون، حتمًا، أمام طبق جازاني يستطيع أهالي المنطقة أن يستشفون من رائحته الذكية في أي موسم هم.
إن المطبخ الجيزاني، قديمًا، له خصوصية تكفلها الأواني الفخارية بدءًا من «الجبنة» وهي آنية مصنوعة من الفخار مخصصة للقهوة، ولا زال يستخدمها الكثير من الأهالي خلال شهر رمضان الكريم، و»المشهف» الذي يوضع فيه الحليب ليتحمض ويكون لبنًا، و»المغش» وهي قدور مصنوعة من الفخار تستخدم للطبخ داخل «الميفا» الذي هو عبارة عن فرن من فخار. تستطيع المرأة الجيزانية بواسطة الميفا وقدور المغش أن تطهو ثلاثة أصناف دفعة واحدة، فعلى حواف الميفا تضع خبز الخمير، وفي وسطه تضع قدور المغش لتطهو في إحدها السمك، وفي الآخر الخضار، والثالث الأرز. لتكون وجبة متكاملة مطهوة على الجمر في قدور فخارية داخل فرن فخاري.

فل وكادي
لم يقتصر اهتمام المرأة الجازانية قديما على مطبخها وقدورها المتنوعة المصنوعة من بيئتها، بل تجاوز ذلك الاهتمام إلى زينتها حيث كانت البيئة كريمة معها فتجملت بالفل الأبيض، المسمى قريشي، في عرسها وأعيادها، ونظمت من الفل عقودًا زينت صغارها به، وعلّقتها في بيتها. لقد اكتست بالفل ونقش الحناء، وقد قال الشاعر ابراهيم خفاجي عنها وعن مدينتها صبيا إحدى محافظات جازان:
مثل صبيا في الغواني ماتشوف
ناشرات الفل والنقش اليماني في الكفوف

لقد أغدقت البيئة على المرأة الجازانية من خيراتها فكانت الجازانية ذات عبق لا يخطئه الأنف. إنه عبق مخلوط بالحناء والفل والمحلب والبعيثران والكادي وكل ما جادت به الطبيعة من أعشاب عطرية. ما جعلها تعشق الرائحة الزكية فتتبعتها إينما كانت، فطيّبت ماء شربها بالكادي، وبخرت أوانيها بالمستكة. إن الجازانية أمًا كانت أو عروسًا أو طفلة قد فطرت على الأصالة والتمسك بالتقاليد، فبالرغم من أدوات الزينة والتجميل الحديثة إلاّ أنها لازالت تسرح شعرها بالعظية أو الولبة وهي مجموعة من الأعشاب العطرية بالإضافة إلى الظفر والطيب، وتظل العظية العطرة في شعر المرأة لعدة أيام، لتكون بذلك كمحبوبة إمريء القيس التي يضحى فتيت المسك فوق فراشها.

البهجة في الفن
يبدو من الفلكور الجازاني أن الرجل الجازاني مولع بتتبع الفرح، حيث تشي رقصاته وآلاته الموسيقية بذلك، وحتى من زيّه التقليدي تستطيع أن تلمس تلك البهجة في ألوان الإزار والسميج «الجاكيت» الذي يجتمع فيهم اللون الأحمر مع اللون الأصفر والأخضر. إن مهرجان اللون في هذا الزي يتضافر مع اللحن الجازاني والكلمة لتنتج رقصات عديدة منها رقصة المعشي وهي رقصة جماعية غنائية يصطف فيها الراقصون صفوفا، وتؤدى في آخر الليل في مناسبات الأعراس. أما في جزيزة فرسان فتشتهر برقصة الدانة المرتبطة بموسم القيظ وجنى الرطب حيث ينتقل الفرسانيون إلى قرى النخيل، و تؤدى هذه الرقصة على إيقاعات الزير حيث يجتمع الراقصون، ويقف الشاعر في الوسط وبعد أن ينتهي الشاعر من ترديد الأبيات يبدأ الراقصون في الرقص على الكلمات والإيقاع.
يزخر الفلكور الجازاني بالرقصات والأهازيج ولكل مناسبة رقصة ولكل موسم إيقاع، حتى في الختان الذي يمر لدى بعض المناطق مرور الكرام، فإنه يُعد لدى الجازانين مظهرًا من مظاهر الفرح لابد له من رقصة وفل و وليمة، لذا كانت رقصة العزاوي التي تمتاز بخفة وسرعة راقصيها في الأداء وتتطلب مهارة فائقة هي الحاضرة في مثل هذه المناسبات.