الأندلس..
زمان الوصل

لم تغب الأندلس يومًا عن الوجدان، فهي مجد طالما افتخرنا به، حيث كانت نقطة انطلاق المسلمين لفتح أوروبا. لكنها اليوم تمثل الألم الذي يعصف بنفوسنا عندما نتذكر سقوطها وزوالها، فالأندلس بكل مساجدها وقصورها وقلاعها وأسوارها وفنها وعلمائها وأدبائها وشعرائها وفلاسفتها، جزء منّا ومن تاريخنا وعظمتنا، لذا كانت الأندلس تستحق هذه الرحلة، إنها رحلة مختلفة.. رحلة لطليطلة وقرطبة وإشبيلية وغرناطة وبلنسية.

رحلة قام بها: محمد حسن علي مفتي

 

مدريد المحطة الأولى
لمدريد حديث متأنق رغم بصمتها التاريخية. لو تمعنت في شوارعها لتخيلت تلك المدينة التي بدأت كقصر صغير يجسد نقطة انطلاق لمهاجمة ممالك الشمال المسيحية، ثم أصبحت الآن مدينة جميلة تقع على ضفاف نهر مانثاناريس، تحوي قممًا جبلية بديعة يصل ارتفاع بعضها قرابة 2.500 متر فوق سطح الأرض. لقد توسعت طولاً وعرضًا وتمددت أفقيًا ورأسيًا حتى أصبحت الآن أحد المراكز المالية الكبيرة. أما القصر الصغير الذي بناه محمد الأول أمير قرطبة ليغزو من خلاله الممالك القريبة، فقد أصبح القصر الملكي الحالي بمدريد!
في مدريد بإمكانك أن تزور جامعة كومبلوتنسي، ولا تفوت عليك زيارة نادي ريال مدريد الشهير، حتى لو لم تقابل لاعبًا شهيرًا يكفي أن تلتقط للنادي بعض الصور للذكرى!
مدريد كغيرها من المدن تمتلئ بالمطاعم، فتحتار بين خيارات كثيرة، ربما كان مطعم الطاحونة الواقع في قلب مدريد من ضمنها. ينبعث من جدران هذا لمطعم عبق الخشب، حيث جدرانه مكسوة به، فبدا لامعًا وصقيلاً. تراصت فوقها لوحات فنية مسلط على منتصفها ضوء أصفر قوي أضاف لها وهجًا ذهبيًا مميزًا، يقدم مطعم الطاحونة أطباقًا من اللحوم المشوية المميزة والمطهوة في أفران خاصة ممزوجة بصوص الصويا الشهي.

طليطلة حصن طبيعي
طليطلة المحطة الثانية.. عندما تحركنا صباحًا كان الجو شديد البرودة، لم يكن الطريق طويلاً من مدريد إلى طليطلة التي تقع جنوب مدريد بقرابة 75 كيلو مترًا، كانت المدينة لا تزال تحتفظ بموقعها كحصن طبيعي، حيث تقع على هضبة مرتفعة منيعة تحيط بها وديان وأجراف عميقة، بدت المدينة كتاب تاريخ تتوالى فصوله، تحيط بها الأسوار العالية، والحصون الشاهقة، وبقايا القلاع القديمة المحاطة بالشجيرات القصيرة والبحيرات الضحلة. يوجد في طليطلة متحف حربي يستحق الزيارة، حيث يستعرض التاريخ العسكري لإسبانيا على مر العصور، يشتمل على أسلحة وذخائر عربية، كانت هذه القاعة تشبه أغلب قاعات المتاحف الأخرى، احتوت على بنادق وسيوف وأسلحة وسروج خيل وملابس ومقتنيات خاصة بملوك الأندلس وخلفائها، وبإمكانك من خلال التجوال بالمتحف أن تتعرف إلى كيفية صناعة أسلحة الجيش الأندلسي.
في اليوم التالي شددنا الرحال لمدينة ملقا الساحلية التي تقع على البحر المتوسط، والقريبة من شمال المغرب، حيث كانت هناك العديد من العبَّارات في مينائها تقوم بنقل الزوار من إقليم الناضور الأمازيغي بشمال المغرب وإليه.

غرناطة.. قصر الحمراء
وصلنا مدينة غرناطة التي طالما تغنى بها الشعراء، وهي المملكة الوحيدة التي ظلت صامدة أمام هجوم الجيوش المسيحية والأوروبية بعد انهيار بقية الممالك الأخرى، والتي ما لبثت أن انهارت تحت ضغط الهجوم والحصار، وبسقوطها طوى العرب والمسلمون صفحة عزيزة من تاريخهم المجيد، وهو السقوط الذي مثل علامة فارقة في تاريخ نهضة الإسبان الذين يعدون سقوط غرناطة بداية تاريخهم وحضارتهم الحديثة.
كانت غرناطة تعج بالعديد من الآثار التي تستحق الزيارة، ولكن ما يميزها هو قصور الحمراء، التي لا تستطيع أن تطلعك على أسرار روعتها دفعة واحدة، إنما يبدأ شعورك بجمالها عندما تتفقدها وتتلمس تفاصيلها. كانت القصور تتكون من أجزاء ثلاثة وهي: القسم الخاص بحكم الوالي، وقسم الاستقبالات الرسمية الذي كان يستقبل فيه الملوك الوفود المختلفة، والقسم الأخير الخاص بمسكن الملوك وحياتهم الخاصة.
كانت غرف القصر وصالاته تتمحور حول صحنين متعامدين، تزينه الزخارف الرقيقة والأقواس هندسية الشكل والقباب البديعة، وكانت الجدران مكسوة بزخارف ملونة لآيات قرآنية وأدعية وأبيات من الشعر، أما الساحات الفسيحة المحيطة به فقد بدت أشبه ببساتين أو جنان رائعة بأشجارها العامرة ونوافيرها وبركها الصغيرة وزخارفها الدقيقة. وبعدها عرجنا على عدة قاعات وأفنية لفت انتباهنا منها قاعة بني سراج، والتي يقال إنها شهدت مقتلهم جميعًا، وهي قاعة كبيرة أرضيتها مكسوة بالرخام اللامع وتتوسطها نافورة مستديرة من الرخام، وفي أعلاها قبة ينفذ عبر نوافذها النور الخافت.
أما إشبيلة فقد كانت جرحًا آخر، يوجد في هذه المدينة الجميلة، والتي يقال إن سكانها ذوو دم عربي، عدة معالم أثرية، لكن أشهر برج هو الكاتدرائية الذي يُعرف «بالخيرالدا»، هذا البرج يمثل أعلى نقطة في المدينة ويمكن رؤيته من أي زاوية منها بسبب ارتفاعه الشاهق، حيث كان لفترة قريبة أعلى مبنى في العالم كله. من المحزن أن هذا البرج لم يكن سوى مئذنة بناها القائد المرابطي يوسف بن تاشفين. ينطق كل حجر فيها بروعة التصميم، والتي تذكرنا بالسيمفونيات العذبة وليس بالمباني الحجرية. ولا يوجد سلم يوصل لأعلى البرج بل يدور حولها طريق حلزوني صاعد يوصل لقمتها المطلة على بستان أشجار البرتقال الذي يعود نشأته إلى عهد ولاة الأندلس.

مسجد قرطبة
لقرطبة اسم لامع في التاريخ، لم يعد الآن سوي صدى لماض عريق، فقرطبة التي كانت حاضرة العالم في زمانها أصبحت الآن مدينة صغيرة ليس بها سوى مطار محلي صغير وشبكة للقطارات السريعة تربطها بعدة مدن إسبانية أخرى، توجد فيها معالم أثرية لم تتخل عن صبغتها العربية كالأسوار العربية والحمامات العربية والقنطرة الرومانية ومدينة الزهراء، وهي المدينة التي بناها عبدالرحمن الناصر، وساهم في بنائها أفضل المصممين المعماريين وأمهرهم آنذاك، لقد كانت هذه المدينة يومًا ما حاضرة العالم، لكنها اليوم غدت أشبه بالأطلال.
ولم ننس زيارة مسجد قرطبة المعروف بالجامع الكبير، وهو أحد الأعمال المعمارية البديعة التي شهد لها التاريخ وعظماؤه، وهو المسجد الذي بناه الخليفة الأموي عبدالرحمن الداخل. وقد كان أكثر ما لفت انتباهي في المسجد هو التناسق الذي يتميز به تصميمه، وظل يتوسع قرابة 250 سنة على يد حكام قرطبة واحدًا تلو الآخر، فهو لم يعد اليوم مسجدًا بل كنيسة محاطة من جوانبها الأربعة بأزقة ضيقة، إلا أن جميع الترميمات والتجديدات والتعديلات أضيفت إليه في حلقات متكاملة، وكأن من أضافها شخص واحد وليس تاريخًا ممتدًا ومتنوعًا من الشخصيات والأذواق المختلفة.

بلنسية.. المحطة الأخيرة
كانت بلنسية هي المحطة الأخيرة من هذه الرحلة لمدن الأندلس القديمة، وفيها يمتزج الماضي بالحاضر، فعلى الرغم من وجود آثار قديمة إلا أنه توجد معالم سياحية حديثة في بلنسية الرائعة، لقد شاهدنا التاريخ عندما يمتزج بالحداثة، والتراث يقف جنبًا إلى جنب مع الحضارة، فكانت زيارة المتحف المائي ذلك الوجه الحضاري لمدينة غرقت في التاريخ هي الأخرى. إن تعاقب الأزمنة وتلاحق السنوات وتفاوت الأيدولوجيات لا يفقد الفن تألقه ولا ينزع عن الجمال طبيعته، رأينا المدن الجميلة التي يتمازج فيها سحر الطبيعة مع روعة التاريخ وجاذبية الواقع. لقد كانت رحلتنا رحلة في أعماق مدن الأندلس القديمة التي حوت صفحة من تاريخنا المشرف وبصمة من حضارتنا العريقة ومجدنا التليد.