قالتأمُّ قاسم لزوجِها إنَّ قماشَ غرفةِ الضيوف قد اهترأ، ونحن بحاجةٍ إلى قماشٍ جديد. فقال أبو قاسم: على الرحبِ والسعة. ثمَّ مضى بصحبةِ ولدِه قاسم إلى السوق ودخل متجرًا لبيعِ الأقمشة وطلب من صاحبِه إحضارَ القماشِ المناسب، ولكنه لمْ ينلْ إعجابَ والدِ قاسم، فسأل البائعَ: هل عندك قماشٌ من الحريرِ الطبيعي؟ أجاب البائع: عندي من الحريرِ الطبيعي ما ينالُ إعجابَك، ثمَّ أحضر مجموعةً من الأقمشةِ تتميزُ بالجودةِ والنعومة، فأعجب بها والدُ قاسم واشترى حاجتَه. وفي الطريق قال قاسم: رأيتك يا أبي تحرصُ على شراءِ قماشٍ من الحريرِ الطبيعي، وقد دفعتَ فيه ثمنًا غاليًا، فما السرُّ في ذلك؟
ضحك الأبُ وقال: إنَّ قماشَ الحريرِ الطبيعي هو أفضلُ الأقمشةِ وأحسنُها. وقال قاسم: سمعتُك تذكرُ كلمةِ الطبيعي، فما قصدُك بذلك؟ وأجاب الأب: إنَّ كلمةَ الطبيعي تعني القماشَ المصنوعَ من الحرير الذي تنسجُه دودةُ القزِّ في الشرانق. قال قاسم: وكيف ذلك؟ وما معنى الشرنقة؟
قال الأبُ إن دودةَ القز تنسجُ حولَ نفسِها مجموعةٍ من الخيوطِ تشبه خيوطَ العنكبوت، فإذا أتمت نسجَها سُمِّيت بالشرنقة، وهذه الخيوط يبلغُ طولُها في الشرنقةِ الواحدة ما بين ثلاثِ مئةِ مترٍ وتسعِِ مئةِ مترٍ، وتبقى دودةُ القزِّ في الشرنقةِ لا تأكلُ شيئًا لمدةِ أسبوعين، ثم تثقبُ الشرنقةَ وتخرجُ لتتحولَ إلى فراشةٍ تطيرُ وتقعُ على ورقِ التوت أو ورقِ الخسِّ أو ورقِ البرتقال، فتبيضُ ما بين ثلاثِ مئةِ بيضةٍ وأربعِ مئةِ بيضةٍ وتثبتُها على ورقةِ التوتِ بوساطةِ مادةٍ صمغيةٍ تفرزُها من فمِها ثمَّ تموت، أمّا البيضُ فإنه يتحولُ إلى يرقاتٍ بعدَ عشرةِ أيامٍ ويكونُ طولُها قصيرًا، وتبدأ بالغذاءِ من ورقِ التوت فتكبرُ شيئًا فشيئًا حتى يصبحَ طولُها نحوَ سبعةِ سنتمتراتٍ بعد أنْ تمرَّ بتطوراتٍ متعددةٍ، وتظلُّ اليرقةُ على غذائها لمدةِ ستةِ أسابيعَ ثمَّ تتوقفُ عن الطعامِ وتبدأ بنسجِ شرنقتِها وتعيشُ أسبوعين ثمَّ تثقبُ الشرنقة وتتحولُ إلى فراشةٍ ثمَّ تبيضُ وتموت.
وقال قاسم: لقد فهمتُ معنى الشرنقةِ والدودة، ولكن كيف يستخرجُ الحرير؟ وأجاب الأب: إنَّ ثقبَ الشرنقةِ من الدودةِ يقطعُ الخيوط ويفسدُ الحرير، لذلك فإنَّ مربي الدود يعمدون إلى وضعِ الشرانقِ في الماءِ الفاتر فتموتُ الدودةُ قبلَ أنْ تصبحَ فراشةً، ويضحي المربون بذلك بعددٍ كبيرٍ من الدودِ في سبيلِ سلامةِ الحريرِ ولكنهم يبقون بعضَ الشرانقِ لتثقبَها الفراشاتُ من أجلِ الحصولِ على البيضِ والدودِ الحديث.
وعندما توضعُ الشرانقُ في الماءِ تبدأ المادةُ الصمغية التي تجمعُ بين الخيوطِ بالتحللِ وتظهرُ بداياتُ خيوطِ الشرانق، فتُجمعُ كلُّ مجموعةٍ من الخيوطِ إلى بعضِها وتُلفُّ على شكلِ كراتٍ لتصبحَ صالحةً للنسج، واعلم يا بني أنَّ خيوطَ الحريرِ الطبيعي من أقوى الخيوطِ وتستعملُ أحيانًا في خياطةِ العملياتِ الجراحية، وأنَّ تربيةَ دودِ القزِّ من التجارةِ الرابحة، لأنه ليس لها نفقات. وسأل قاسم: ومن أينَ يحصلُ الإنسانُ على يرقاتِ الدودِ؟ فأجاب أبوه: إن هناك محالَّ تهتمُ بالقضايا الزراعية وتبيعُها، وأنا أعرفُ أين تُباعُ. قال قاسم وقد أضمر في نفسِه بأنه سيكونُ في المستقبلِ أحدَ أكبرِ تجارِ الحريرِ الطبيعي: ليتك يا والدي تحضر لي بعضَ اليرقات. قال الأبُ: سأحضرُ لك إذا أجبتَ عن سؤالي وهو: مَنْ علَّمَ هذه الدودة ونظَّمَ حياتَها لفائدةِ الإنسان؟ قال قاسم: إنه الله يا والدي، الذي خلقَ وعلَّم وسخَّر ما في الوجودِ لخدمةِ الإنسان. قال الأب: أحسنتَ يا بُني وأصبت.
ومضتْ سنواتٌ، ومن يمرُّ الآن في الشارع سيرى متجرًا كبيرًا عُلِّقت فوقَه لوحةٌ تقول: مؤسسة قاسم لإنتاج الحرير الطبيعيه