سوق عكاظ

استدعاء التاريخ بكل وهجه الحضاري والثقافي


في سيرة الحضارة والتاريخ الإنساني تبرز بعض المواضع والمشاهد بصورة لافتة، بحيث لا يمكن أن تتجاهلها أو تغفل عنها عند استدعاء الماضي، ومذاكرة ما تم فيه.. وليس لهذا البروز من سبب سوى أن هذه المشاهد والأماكن قد نحتت حضورها المتميز بنشاط فاقت به رصيفاتها في الزمان، وكشفت به عن تقدم ووعي سابق لأوانه، متجاوز لزمانه.. ومن هذه النافذة يطل «سوق عكاظ» بكل ما لهذا الاسم من مكانة تاريخية ودلالات حضارية.

جدة: خيرالله زربان

خرجت به من مفهوم «السوق» المتعارف عليه مكانًا للبيع والشراء، ليصبح منتدى مفتوحًا في الهواء الطلق، تشدّ إليه الرحال من كل صوب، ويقصده العرب في زمانهم القديم قبل أكثر من ثلاثة أو أربعة قرون قبل الميلاد.
على ثرى هذا السوق الأشهر في تاريخ الإنسانية كانت تجتمع قبائل العرب، وتتنادى للبيع والشراء، ثم المنافحة الشعرية، والخطابة المفوهة، في سجال يتبارى فيه خطباء القبائل وشعراؤها لإبراز أفضليتهم، وكشف مناقبهم التي يتفوقون ويتميزون بها على القبائل الأخرى. ومن هذه الحالة الخاصة جاء الاسم «عكاظ»، الذي وصفه العالم اللغوي الخليل بن أحمد بقوله: «وسُمّي به لأن العرب كانت تجتمع فيه كل سنة فيعكظ بعضهم بعضًا بالمفاخرة والتناشد: أي يُدعك ويُعرك، وفلان يعكظ خصمه بالخصومة: يمعكه».. وعلى هذا يتأسس في العقل أن سوق عكاظ كان بمنزلة المنبر السياسي والاجتماعي لقبائل العرب في سالف الزمان، بما يعقد فيه من مواثيق وتحالفات ومبارزة بين الشعراء والخطباء.
ولمّا كانت قيادتنا الرشيدة من الحكمة وسعة الأفق، فقد سعت منذ وقت بعيد إلى إعادة أمجاد هذا السوق، ليس من منظور كونه سوقًا للبيع والشراء، ولكن بوصفه علامة ثقافية وحضارية. ولهذا أولت حكومة المملكة العربية السعودية في عهودها الزاهرة المختلفة اهتمامًا بعودة هذا السوق، على نحو يرسّخ ما كان عليه قديمًا، ويواكب مستجدات الحاضر بصورة تكشف تناغمًا وانسجامًا وتظهر مقدرة الإنسان العربي عمومًا والسعودي خصوصًا في استعادة ماضيه بفخر، ومعايشة حاضره برؤية متناغمة ومنسجمة وحضارية.
وقد كانت أولى محاولة بعث هذا السوق واستنهاضه في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز، يرحمه الله، واستمرت المحاولات على نحو جاد حتى حققت عودة السوق إلى سابق عهده في عام 1428هـ/ 2007م بعد انقطاع امتدّ لأكثر من 1300 عام، فكونت من أجل ذلك لجان من الجغرافيين والمؤرخين والأدباء بغية تحديد المكان الجغرافي لهذا السوق بدقة كاملة، حتى يوافي المقصد المهم المتعلق بالمكان. وعلى هذا مضت مسيرة التخطيط لإعادة السوق بتؤدة وروية، فكان موسم العودة الأول في فعاليات سوق عكاظ حدثًا تاريخيًا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، شكّل فيه الماضي حضوره من خلال استدعاء رموزه القديمة بكل صورها، مستظلة تحت شعار جديد استحدثه القائمون على أمر إعادة السوق بتصميم استوحى تصميمه من الخط الذي ظهر في بعض الكتابات على الأحجار الباقية في موقع السوق التاريخي. وفي تقارب الألوان التي ملأت الفراغات وانسجامها بين الكلمات دلالة على وحدة الهدف الذي من أجله توجه الناس إلى سوق عكاظ، وإن اختلفت مشاربهم وأهواؤهم، حيث أخذ الشعار من الماضي بقاءه ومن الحاضر عافيته، وفيه إحساس بصوت ومتلقٍّ، وخيمة ووتد، وأولية فطرية تفخر بما هي عليه وتعتز.
وتحت هذا الشعار مضت الفعاليات، التي تنوعت على جادة سوق عكاظ، ما بين الفعاليات الثقافية من شعر ومسرح وندوات، وأعمال فلكلورية ونشاطات أعادت أمجاد العرب القديمة، وتنادى إليه العرب من كل الأقطار، مشاركين ومتنافسين على الجوائز التي استحدثت لرفع مستوى التنافس، ولإعادة ما كان عليه السوق من تنافس في القديم، ليبرز ذلك بوجه آخر يتواكب مع المتغيرات الكثيرة التي طرأت على الساحة العربية في الزمن الحاضر، على نحو لم يذهب بالقيمة التاريخية للسوق نفسه.
ومن بين هذه الجوائز المستحدثة في سوق عكاظ جائزة شاعر عكاظ، وهي جائزة مخصصة للشعر الفصيح، يتنافس عليها جميع الشعراء في وطننا العربي، ويحصل الفائز فيها على لقب «شاعر عكاظ» مع درع وبردة وجائزة مالية قدرها 300 ألف ريال، مع إتاحة الفرصة لصاحبها بالمثول في السوق وإلقاء قصيدته في يوم الافتتاح. وهناك، أيضًا، جائزة شاعر شباب عكاظ، ولا تختلف عن سابقتها إلا في كونها مخصصة للشباب بهدف تشجيعهم، حيث ينال الفائز بها مبلغ 100 ألف ريال. وهناك جائزة لوحة وقصيدة، التي ربطت بين الفنون والشعر في تناغم وانسجام بديعين، كما أنها فتحت المجال واسعًا لتوثيق العلاقة بين الشعر والرسم، حيث يقوم المتنافسون عليها باختيار قصيدة أو بيت شعر واستلهام لوحة من هذه القصيدة أو البيت الشعري، وينال الفائز بها مبلغ 100 ألف ريال.
ومن الجوائز، أيضًا، جائزة الإبداع العلمي، التي دخلت أجندة الجوائز هذا العام، وخصصت للمبدعين من الباحثين، بحيث ينالها أكثرهم جودة في بحثه على المستوى العالمي، أو لمن يحصل على براعة اختراع في مشروع يخدم به البشرية جمعاء، ويحصل الفائز بها على مبلغ 100 ألف ريال. ولم تقف أجندة الجوائز عند هذا الحد، فهناك جائزة الخط العربي، وجائزة التصوير الضوئي، وجائزة الحرف اليدوية، وجائزة الفلكلور الشعبي.
ويمكن القول، إجمالاً، بأن كل هذه الجوائز استطاعت أن تجعل من فعاليات السوق مسرحًا للتنافس من أجل رفع قيمة الجمال، واستنهاض همم المبدعين، ورفع ذائقة المتلقين من جانب آخر. وقد نجحت في ذلك أيما نجاح في مواسم السوق المتعاقبة.
وقد عملت اللجان المشرفة على سوق عكاظ على استحداث فعاليات متنوعة في كل عام. وقد ظهر ذلك جليًا في موسم السوق هذا العام، والذي انفضّ سامره قبل أيام قلائل تاركًا في ذاكرة الزمان سيرة عطاء خلاق.
فقد شهد هذا العام حصول الشاعرة السودانية روضة الحاج على لقب «شاعر عكاظ» لتصبح بذلك أول امرأة تنال هذا اللقب بعد أن كان حكرًا على الرجال في المواسم السابقة. ولعل هذا الفوز يكشف بجلاء ووضوح ما توليه القيادة السعودية الرشيدة للمرأة، والنظرة الكريمة التي تحوطها بها، فيما نال الشاعر السعودي إياد أبو شملة الحكمي جائزة شاعر شباب عكاظ. وذهبت جائزة التميز والإبداع العلمي إلى د.أحمد ظافر القرني من السعودية. فيما فاز بجائزة الخط العربي ثلاثة فنانين يمثلهم السوري حسام علي مطر، والمصري محمد حسن الهواري، والعراقي محمد نوري النوري. أما مسابقة التصوير الضوئي ففاز بها شعيب هشام خطاب من العراق، وفيصل مشرف الشهري من السعودية، وعويضة العقيلي من السعودية أيضًا. أما قصيدة لوحة وجائزة ففاز بها عبده محمد عبده عريشي من السعودية، وعبدالعزيز بوبي عشر من الصومال، وفهد خليف الغامدي من السعودية. كما شهد موسم هذا العام عرض مسرحية «عنترة بن شداد» وبعض الأمسيات الشعرية والندوات المتفرقة.
أما أبرز حدث في هذا العام فقد تمثل في الندوة الحوارية «ماذا يريد الشباب منا.. وماذا نريد من الشباب؟»، والتي شهدت نقاشًا مفتوحًا بين المسؤولين والشباب، بحضور صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة، وسمو الأمير فيصل بن عبدالله بن محمد وزير التربية والتعليم، وسمو الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، وسمو الأمير نواف بن فيصل الرئيس العام لرعاية الشباب، ووزير التعليم العالي د.خالد العنقري، ووزير الثقافة والإعلام د.عبدالعزيز بن محيي الدين خوجة، وعدد من طلاب الجامعات السعودية.
وهدفت الندوة إلى تشجيع التواصل بين الشباب وصنّاع القرار، حيث جاء النقاش مثمرًا وطرحت فيه الكثير من القضايا المهمة.. آملين أن يتواصل عطاء السوق في مواسمه الزاهرة المقبلة.