لم أعان من «صدمة حضارية أو ثقافية» عندما حطت بي الرحال في الولايات المتحدة لإكمال دراساتي العليا، ربما بسبب قراءتي الكثيرة عن الولايات المتحدة ومشاهدتي لأفلام هوليوود المختلفة. ولكن خلال وجودي في الولايات المتحدة على مدى أكثر من عقدين من الزمن، تعرضت للعديد من «الصدمات الثقافية» التي أثرت في تكوين شخصيتي بشكل أو بآخر. وكان أثر بعضها كبيرًا في نفسي بشكل لم أعهده من قبل. باختصار، تعرضت لصدمات حضارية بشكل لا يمكن أن أنساه، على غرار ما سيرد في السطور التالية:
كنا مسافرين عبر ولاية كنساس إلى مدينة دنفر في ولاية كولورادو. كان الطريق طويلاً ومملاً: أرض زراعية منبسطة لمئات الكيلومترات التي تكاد تخلو من الأشجار، كأنها بحر، ليس هناك نهاية إلا الأفق. وزاد من ملل الطريق خلوها من السيارات. فاليوم أحد، والسماء زرقاء، حتى الغيوم قررت ألا ترافقنا في سفرنا في ذلك اليوم. بعد ساعات طويلة، وصلنا ظهرًا إلى قرية صغيرة قريبة من حدود ولاية كولورادو وقررنا الوقوف لتناول الطعام في أحد المطعمين الوحيدين على جانبي الطريق.
لم أنتبه إلى مدى نأي هذه القرية إلا عندما بدأ زوار المطعم ينظرون إلى زوجتي المحجبة المجلببة وكأنها مخلوق قادم من الفضاء. عندها أدركت أننا في عالم آخر، حيث إن أقرب مدينة تبعد أربع ساعات غربًا، والأخرى ست ساعات شرقًا، أما من جهة الشمال أو الجنوب، فليس هناك إلا الأفق البعيد.
جلسنا على الطاولة بانتظار قدوم إحدى العاملات وسط عشرات السهام التي ترميها عيون غائرة في وجوه شاحبة.. كم هي كئيبة هذه القرية. نظرت حولي مبتسمًا في محاولة لطمأنة الحضور.. وكأنني أقول لهم: نحن بشر مثلكم. ابتسمت أكثر عندما دارت تلك الفكرة في خلدي. فجأة وقفت امرأة عجوز كانت تجلس في زاوية المطعم، نظرت إلينا نظرة ثابتة، ثم بدأ ثغرها يتفتح عن ابتسامة، كبرت كلما اقتربت حتى وقفت بجانب طاولتنا: مرحبًا، هل أتيتم للإقامة في مدينتنا أم أنكم عابرو سبيل؟ أجبتها بسرعة، مستغربًا أن يأتي أي إنسان للعيش في هذا المكان النائي: عابرو سبيل فقط. هزت رأسها والابتسامة لا تفارقها: أحببت أن أعرف فقط.. على كل حال، اسمي إليزابث، إذا أردتم أي مساعدة، فأنا في ذلك المقعد.. وأشارت إلى مقعدها وكأنه المقعد الذي تجلس فيه كل يوم.
ما أن جلست المرأة في مقعدها حتى اتجه رجل يلبس قبعة رعاة البقر باتجاهنا. كان أحمر الوجه، نحيفًا، وربما في منتصف الثلاثينيات، وصل إلى محاذاتنا وقال بصوت عال مخاطبًا زوجتي: أيتها المرأة: ماذا تلبسين؟ ثم تحول ضحكه إلى قهقهة بغية لفت انتباه الجميع: ألا تعلمين أن هالويين انتهى منذ ثلاثة أيام؟
صعقت عندما سمعت تعليقه الساخر أمام كل رواد المطعم. كنت أنظر إليه ولم أعرف إذا ما ضحك الآخرون أم لا. حسبت أنني توقعت كل شيء عندما بدأت النظرات تلاحقنا عند دخولنا المطعم في هذه القرية المعزولة، ولكن لم أتوقع أن تتعرض زوجتي لموقف كهذا. بدأ قلبي يخفق بشدة، ماذا أفعل؟ نظرت إليه مرة أخرى، تلاقت نظراتنا، ابتسم، فابتسمت، ثم قلت: هل شربت قهوتك بعد؟ أشرت إليه أن يجلس إلى جانبي عندما هز رأسه بالنفي، وقلت له أنت ضيفي، لنشرب القهوة معًا.
أخبرته بأن ما تلبسه زوجتي هو زي إسلامي، وأنها تلبسه دائمًا خارج البيت وأمام غير المحارم. فوجئت بأنه لم يسمع كلمة «إسلام» من قبل. أخبرته بأنه دين يؤمن به عدد كبير من الناس. تبادلنا الحديث لحوالي ربع ساعة ثم قرر الانصراف بعد أن انتهى من شرب القهوة وجاءت عاملة المطعم بطعامنا.
بعد حوالي عشر دقائق سمعنا جلبة عند باب المطعم. نظرت لأجد صاحبنا قد عاد ووراءه عدد كبير من الناس، قدرته فيما بعد بحدود عشرين رجلاً وامرأة. اتجه صاحبنا باتجاهنا والسرور يملأ وجهه. وقف بجانبي ووضع يده على كتفي بطريقة توحي بأنه ينتظر أن يجتمع الجميع حولنا ثم قال لمن حوله: أحب أن أقدم لكم صديقي الدكتور أنس الحجي وزوجته. هؤلاء المسلمون الذين كلمتكم عنهم وأحببت أن تقابلوهم. صافحت بعضهم وتكلمت مع بعضهم، ثم انفضوا وعادوا من حيث جاؤوا خلال دقائق.
خرجنا من المطعم واتجهنا إلى السيارة لنجد أن صاحبنا يقف مع أصدقائه في الخارج. لوح يده بالسلام، فاتجهت إليه وتبادلنا العناوين وأرسلت له كتبًا ومنشورات عن الإسلام.
أصبح طريق العودة ماتعًا ونحن نتحدث عما حصل. 15 دقيقة كانت كافية لأن أتحول من شخص غريب إلى صديق!