مكانة العمل في الإسلام
سخر الله تعالى الكون لخلقه وهيأ لهم مجالات الكسب وطرقه.
شتوية بامتياز ولكن نحصل عليها على مدار السنة وإن كان طعمهابقلم: أ.د.عبدالكريم بن صنيتان العمري
الجامعة الإسلامية المدينة المنورة
أماني الددا
اختصاصية تغذية علاجيةجاءت دعوة الإسلام شاملة لكل مجالات الحياة، محققة للتوازن بين مطالب الدنيا والآخرة، فَلَمْ تلزم الإنسان بالاقتصار على أداء العبادات فقط، ولم ترغمه على الابتعاد عن تلبية رغبات نفسه المشروعة، ولم تحل بينه وبين توفير متطلبات الحياة ومقوماتها، بل وجهته إلى أن يكون معتدلاً في نفسه، جامعًا بين القيام بالتكاليف الشرعية، وتوفير مقومات الحياة، فلا يبقى في هذه الدنيا عالة على غيره، معتمدًا على الآخرين في توفير احتياجاته ومتطلباته.
لقد حمل التشريع الإسلامي للإنسان ما يحقق أمنه، ويكفل له سعادته، حيث ربط الإسلام بين الإيمان والعمل، وقرن أحدهما بالآخر، قال تعالى: }الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ{ سورة الرعد 29.
ولا يتبادر إلى الذهن أن العمل الصالح مقصور على العبادات فقط، بل هو عام يشمل كل نشاط شرعه الإسلام وأقره ودعا إليه، في أي ناحية من نواحي الحياة، فيدخل في العمل الصالح العبادة للخالق جلَّ وعز، والعمل في طلب الرزق، والتعليمُ والتعلم، والتجارة، والزراعة، والنزول إلى معترك الحياة بقلب مفعم بالإيمان.
إن العمل مهم في حياة الإنسان، وعنصر حيوي في بناء المجتمع ورقيه، وازدهاره وحيويته، وكرامة أفراده، فقد حضَ الإسلامُ على العمل والنشاط، ودعا إلى استغلال كل فرد للقوة الكامنة فيه، وتوظيفها فيما ينفعه ويفيده، ويحميه من الافتقار، والحاجة للغير، ويحمي كرامته، وكل فرد في المجتمع المسلم مطالب بالعمل والسَّعي لكسب العيش، ونبذ الخمول والكسل، ولو كانت الأرزاق تتحقق للفرد دون عناء ولا تعب، ولا كَدٍّ ولا عمل، لكان أولى بذلك رسل الله وأنبياؤه عليهم الصلاة والسلام، الذين كانوا يعملون ويجدون في طلب الرزق، مما أباح الله لهم، فكان زكريا عليه السلام نجارًا، وقال ابن عباس، رضي الله عنهما: كان آدم عليه السلام فرانًا، ونوح نجارًا وإدريس خياطًا، وإبراهيم ولوط زارعين، وصالح تاجرًا، وداود زرَّادًا، وموسى وشعيب ومحمد رعاة، عليهم الصلاة والسلام، فلم يقعدوا عن طلب الرزق، ولم تتوفر لهم مقومات الحياة دون كدٍّ ولا تعب، بما لهم من منزلة عند الله تعالى، وإنما عملوا بأيديهم وسعوا في تحصيل معيشتهم، حتى تقتدي بهم الأمم، وتستن بطريقتهم.
لقد أكد الإسلام أهمية العمل في حياة الإنسان ووجوب السَّعي في كسب المعيشة، ووسّع على المسلمين في كثرة الطرق المباحة للكسب المشروع والمباح، فالمهن كثيرة، والوظائف المشروعة عديدة، والله تعالى قد سخر الكون لخلقه، وهيأ لهم مجالات الكسب وطرقه، وحث العباد على الاستفادة مما أودعه الله في البحر من الخيرات، فقال سبحانه: }اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{ سورة الجاثية 12.
إن الإنسان محتاج بحكم فطرته إلى إشباع غرائزه وحاجاته، ولابد له أن يندفع في معترك الحياة ليعمل من أجل الحصول على لقمة عيشه، وتوفير ما يحتاج إليه لنفسه وأسرته.
ولقد بين المصطفى، صلى الله عليه وسلم، فضل العمل، وأن الساعي لإعفاف نفسه، والبحث عن نفقة من يعوله ينال الأجر العظيم، فقد مرَّ على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رجل، فرأى أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، من قوته ونشاطه فأعجبهم، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان».
فالإسلام يحض على العمل، ويمقت البطالة، ويحث المرء على استغلال قواه البشرية، ومواهبه وطاقاته، وألا يبقى معطلاً قاعدًا عن التحصيل والتكسب، فارغًا يستجدي الآخرين بذلة ومهانة، وإهدار للكرامة. فالعمل هو السلاح الأول لمحاربة الفقر، والوسيلة الرئيسة للإنتاج والنهوض والمحافظة على كرامة النفس وعزتها.
ومما يبرز ذمّ الإسلام للبطالة ومقته لها، وتأهيله عليه الصلاة والسلام للعاطلين وتوجيهه لهم إلى العمل، واهتمامه بأحوالهم، ذمه للتسول وحثه لهم على التكسب باليد، وعدم الركون إلى الآخرين، وأن يبحث كل عاطل عن العمل المناسب له الملائم لقدراته، والموافق لرغباته وتطلعاته.
وساوى الإسلام بين الجميع في الانتفاع بخيرات الله تعالى، التي هيأها للناس في الأرض، وجعل الفرص للكل في الجد والاجتهاد، والتماس الرزق واكتساب المعيشة، فكل من ثابر وعمل، ونمى ماله وثروته احترمه الإسلام، وأحاط ملكيته للمال بالحفظ والصون، وقرر له حقَّ تملك المال، ومنع الآخرين من الاعتداء عليه أو النيل منه.
إن حق الملكية للمال واحدٌ من أهم الضرورات التي أجمعت الشرائع السماوية على حمايتها وصونها، وجعل للمالك حرية التصرف فيما يملكه، وإنفاقه في مجالاته المشروعة، وطرقه المباحة.
والإسلام ينظر إلى المال على أنه مال الله تعالى، وأن الإنسان مستخلف في هذا المال، يأكل وينفق ويصرف منه حسب ما أمره له المالك الحقيقي جلَّ في علاه، فإذا أهدى أو تصدق أو باع أو وهب، فإنما يكون على وفق ما نصّ عليه الشارع الحكيم، قال تعالى: }آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ{ سورة الحديد 7.
فأصل الملك للمال لله وحده، وليس للإنسان فيه إلا التصرف، وليست الأموال للناس حقيقة، وإنما هم بمنزلة الوكلاء عليها، قال تعالى: }وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ{ سورة النور 33.
وإضافة المال إلى الناس في آيات أخرى، إنما هي إضافة حق الانتفاع به تفضلاً من الله تعالى على عباده، أن الله تعالى مالك كل شيء.
لقد تفضل الباري، جلَّ وعز، فأعطى للإنسان حق الملكية للمال، وقيده بقيود، وجعل له ضوابط محددة، فأقر ملكية المال الذي يحوزه، ويكتسبه من طرقه المشروعة، وتملك المنازل والدور والأرض، وغير ذلك من مقومات الحياة، والوسائل الأخرى التي يحتاج إليها الإنسان في نظامه المعيشي.
والإسلام حين جعل حق التملك مقيدًا بحدود وضوابط معينة، إنما يهدف إلى تحقيق مقاصد سامية، والوصول إلى غايات نبيلة، تؤدي إلى استقرار المجتمع الإنساني، وتكفل حياة آمنة مستقرة لأفراده، بعيدًا عن الاختلافات والنزاعات، وكلُّ ما قرره الإسلام من قيود لحماية الملكية الفردية، إنما هي ضمانات وموانع تحمي المال من تسلط الآخرين عليه، أو استلابه من مالكه الأصلي، الذي جدَّ وعمل واكتسب، حيث يقدر الإسلام لهذا العامل جهده، ويحفظ له حقه في تملك ما اكتسبه، فلا يخرج من ملكيته إلا برضاه التام، وعن قناعة وطيب نفس منه، ولذلك تختلف الملكية في الإسلام من شخص لآخر فمن كان عمله أكبر وجهده أكثر، كان ما يمتلكه من مال موازيًا للجهد الذي بذله، والتعب الذي أصابه، فلا يستحل أحد جهده أو يتسلط عليه لينتزع منه ما اكتسبه.
إن المجتمع حين ينهض أفراده بشؤونه، ويكون الجميع شعلة من النشاط والعمل، يؤدي به ذلك إلى الرقي والاكتفاء، ويحفظه من الخلاف والنزاع، ويحميه بإذن الله تعالى من السرقة والنهب، والخيانة واللجوء إلى الطرق الملتوية، والحيل المحرمة، ويصونه من وقوع الشقاق بين أفراده، فيعيش الجميع في أمن ووئام، ومحبة وسلام.