نلتسهيل المرور في هذه المرتفعات عمل الإنسان على إنشاء ممرات جبلية ملائمة لصعود القوافل ونزولها، وتم تمهيدها بوسائل بدائية لا تخلو من الإبداع. هذه الممرات الجبلية منتشرة في مختلف هضاب الجزيرة العربية وجبالها، ولا يزال كثير منها قائمًا إلى يومنا هذا.
في الدول المتقدمة سياحيًا تمثل هذه الطرق ممرات لممارسة رياضة السير الجبلي «الهايكنج»، ويمكن أن يستفاد منها للرياضة والترفيه، وتطوير السياحة الرياضية، ونشر ثقافة النشاط البدني. وقد أتيحت لي في السنوات السبع الأخيرة ممارسة رياضة السير الجبلي في ممرات عدة قديمة منتشرة في مختلف مناطق المملكة. وألخص هنا تعريفًا بأهم الممرات الجبلية في الجزيرة العربية إضافة إلى تعريف بهذه الرياضة، وأتحدث عن وسائل نشر هذه الثقافة ومتطلبات تنشيطها على مستوى المملكة. في العصور السابقة كان سير قوافل المشاة والجمال على المناطق الساحلية والصحراوية أمرًا ميسرًا, ولا يحتاج المسافرون سوى إلى معرفة بالطريق واصطحاب ما يكفي من الماء والزاد، ومعرفة جيدة بأماكن المياه التي ينبغي تتبعها على الطريق تجنبًا للعطش، حيث تؤخذ في الحسبان الأوزان التي يمكن حملها من الماء لكل مسافة.
وفي المناطق الجبلية والهضاب يدخل عنصر جديد من عناصر الصعوبة، وهو الحاجة إلى ممرات جبلية يمكن قطعها في أقصر مسافة ممكنة, يراعى في بنائها درجة الميول المناسبة للراجلين والجمال, وسعة الطريق الجبلي لتسهيل مرور الجمال بما عليها من أحمال. وقد صُمِّمت لهذا الغرض المئات من الممرات بأشكال وتصاميم مختلفة, وروعي في تصميمها بُعدها عن مساقط المياه ومجاري السيول، ما جعلها متماسكة على مر العصور. وعند مراعاة المسافة التي يمكن قطعها بما يمكن حمله من الماء، وعند أخذ الظروف المتعلقة بالوضع القبلي في الجزيرة العربية، فقد يلجأ إلى إنشاء أكثر من ممر جبلي في المنطقة نفسها.
كانت القوافل المسافرة من شرق الجزيرة العربية نحو الحجاز تضطر إلى النزول من المنطقة الجبلية المتمثلة في جبل طويق الذي يمتد على شكل قوس من الشمال إلى الجنوب بطول نحو 800 كلم وارتفاع يراوح بين 200 و300 متر عن سطح الأرض. وللأسباب المشار إليها تم إنشاء نحو مئة مطلع على جبل طويق تتفاوت في ارتفاعها وميولها ودرجة تمهيدها. ومن أشهر هذه الممرات طلعة القدية التي تقع على بعد نحو 42 كيلومترًا إلى الغرب من الرياض.
وفي سلسلة جبال السروات هناك المئات من الممرات الجبلية التي اشتهر بعضها مثل درب الجمال الذي يخترق جبل كرا بالهدا مسافة 2.9 كلم، وقد أتيحت لي الفرصة لصعوده أكثر من مرة. وللعلم فإن هذا الممر الجبلي كان يُعد «مرورًا محليًا» يصل التجارة بين مكة والطائف ولم يكن متاحًا للقوافل العابرة التي تتجاوز الطائف. فدرب الجمالة في هذا الطريق ينتهي في مساحة ممهدة تسمى «برحة الجمال»، وقد كانت الجمال تفرغ حمولتها فيها، وتعود إلى مكة ومن ثمَّ تنقل الأحمال على الدواب الصغيرة والعمال. أما القوافل الكبيرة التي كانت تتجاوز الطائف وتمر بأحمالها نحو شرق الجزيرة فقد كانت تسلك ممرات أخرى واسعة تمر بطرق جبلية أكثر تمهيدًا من جبل كرا من خلال طرق موازية للطريق المعروف حاليًا بطريق السيل. وفي جبال عسير توجد المئات من الممرات الجبلية ومن أشهرها المسار الجبلي الذي يصل بين رجال ألمع وجبال السودة بالقرب من أبها والمعروف بـاسم «عقبة القرون»، وهو مسار جبلي رضم رضمًا بطريقة إبداعية ليشق طريقه عبر عدة جبال. وقد أتيحت لي فرصة ممارسة رياضة الهايكنج في هذا المسار الذي يبلغ طوله نحو 6 كلم, ولا يزال يحتفظ بمعالمه كما كان من مئات السنين. ويتحدث مؤرخ طرق القوافل والحج في الجزيرة العربية، عبدالله بن محمد الشائع، عن آلاف المسارات الجبلية في هضاب الجزيرة العربية وجبالها, منها تلك التي أتيح لنا الوصول إليها لقربها من طرق السيارات, ومنها ما كان ذات يوم من أهم «الطرق السريعة» التي كانت تمر على مناطق آمنة وتجمعات للمياه، ما جعل هذه الطرق ذات يوم محاور استراتيجية تمر بها قوافل الحج والتجارة، إلا أنها اندثرت ويصعب حاليًا الوصول إليها.
ورياضة الهايكنج «السير الجبلي» رياضة متطورة جدًا في أوروبا. وهناك مسارات قديمة وأخرى مستحدثة للسياح تزخر برحلات المجموعات السياحية، ولها خرائطها وأدلاؤها بل واستراحات وفنادق خاصة لممارسي هذه الرياضة، حيث يصل ممارسو هذه الرياضة إلى هذه الفنادق مشيًا على الأقدام ليستريحوا فيها ليلاً قبل أن يواصلوا سيرهم. ويسمى أحد هذه الفنادق في بلجيكا Back Pack Hotel «فندق حقيبة الظهر». وتوجد في بريطانيا وكندا مسارات متواصلة لممارسي هذه الرياضة تقطع الدولة من أقصى شرقها إلى أقصى غربها. ويوجد في الولايات المتحدة طريق جبلي يمتد من جبال سبرينجر في ولاية جورجيا إلى جبال كاتا هدين في ولاية مين يسمى طريق سلسلة آبالا «Appalachain» ويبلغ طوله نحو 3500 كلم، وتنظم رحلات للسير فيه جزئيًا أو كليًا لمن أراد أن يقطعه في مدة تراوح بين خمسة أشهر وسبعة أشهر.
ولا بد من الإشارة إلى أن رياضة السير الجبلي «الهايكنج» لها احتياجات أساسية, من أهمها توافر اللياقة العالية وخريطة أو دليل عارف بالطريق، كما أن عنصر الأمان مهم جدًا, فبعض المسارات تمر على مناطق نائية قد تعيش فيها مخلوقات يمكن أن تمثل خطرًا على الإنسان، ويجب توافر الصحبة وكميات كافية من الماء والطعام، مع ضرورة التخطيط الجيد للوصول للمكان المناسب قبل حلول الظلام, إضافة إلى توافر الإسعافات الأولية وغيرها. رياضة السير الجبلي تجعل الإنسان محبًا للطبيعة وصديقًا للبيئة، فمن أسس ممارستها عدم الإضرار بالبيئة، وعدم رمي النفايات البلاستيكية وغيرها في الطبيعة حتى تبقى هذه المسارات محتفظة بنظافتها وجمالها. كما أنها رياضة تجعلنا نتأمل الحاضر والماضي، وتعرفنا بحجم الجهد الذي كان الأجداد يبذلونه، وكيف تحملوا ظروف السفر. كما أن السير في هذه الممرات يعطي صورة عن صحة الآباء والأجداد ولياقتهم التي تمكنهم من صعود هذه الممرات المرتفعة، فقد كانت هي الطريق الوحيد الذي ينقل، ليس فقط، البضائع والأحمال، بل هو طريق السير للمسافرين من نساء وأطفال. ومن تجربتي في ممارسة هذه الرياضة الفريدة أرى ضرورة تشجيعها، وتوفير الفرص للشباب لممارستها لما تحويه من تشجيع على تحسين اللياقة، والمغامرة، وبناء الشخصية، وقوة التحمل، والتدريب على القيادة والتخطيط. ومثل هذه الرياضات لا بد أن تأخذ بُعدًا شعبيًا وتحظى بتشجيع المهتمين بالسياحة من المؤسسات الحكومية والخاصة، كما يجب تشجيع مؤسسات المجتمع المدني المعنية بقضايا الشباب لنشر هذه الثقافة. .