سكاريا التركية

سحر الطبيعة.. وطريق الحرير


عبدالله المحيميد
رئيس تحرير مجلة التدريب والتقنية

يعتقد كثيرون أن جاذبية العاصمة التركية «إسطنبول» وتنوع خدماتها ومعالمها السياحية تفوّت الفرصة على بقية مناطق تركيا ومدنها لإبراز مفاتنها السياحية، وتحرمها الحصول على نصيبها من أفواج السياح القادمين إلى تركيا من أنحاء متفرقة من العالم. وإن كان هذا الاعتقاد صحيحًا في سنوات مضت فإنه في هذا الوقت أصبح بعيدًا عن الواقع، فالمناطق والمواقع التركية الأخرى دخلت حلبة المنافسة في صناعة السياحة مع العاصمة التاريخية «إسطنبول» ونجحت في جذب السياح واستقطابهم من كل أنحاء العالم، ولا يعود الأمر في ذلك إلى توافر المقومات السياحية الطبيعية المتمثلة في الأجواء المناخية العليلة والمساحات الخضراء والآثار التاريخية فحسب، وإنما يرجع في جانب كبير منه إلى برنامج الترويج السياحي الذي تنفذه الحكومة التركية كاشفة بذلك عن كنوز عديدة من المواقع السياحية الجاذبة.
وعلى الرغم من أن مدينة «سكاريا» لا تبعد عن «إسطنبول» بالسيارة سوى ساعتين، إلا أن هذه المدينة نجحت خلال السنوات الأخيرة في أخذ نصيبها من جموع السياح الذين يفدون إلى تركيا كل عام، وبفضل موقعها المطل على مسافة واسعة من ساحل البحر الأسود شمال غرب تركيا، وما تملكه من عناصر الجذب السياحي فقد استحوذت على اهتمام الآلاف من السياح، ونجحت في تقديم خيارات متعددة لمختلف الأذواق والرغبات، ويمكن للسائح أن يختار من بين أكثر من «22» موقعًا متنوعًا ما يناسبه ويلبي احتياجاته السياحية، فالذين يبحثون عن جمال الطبيعة والهضاب العالية والغابات والبحيرات العذبة سيجدون في أجزاء من «سكاريا» منظومة من المواقع البكر الساحرة، بما فيها ينابيع المياه الحارة والمنتجعات الصحية التي تخدم الناس منذ آلاف السنين، أما الذين يرغبون في مشاهدة الحقول الزراعية ومنتجات العنب والسفرجل فسيعثرون على ضالتهم في مناطق «جيف» و«سابنكا» و«باموكوفا» التابعة لمنطقة سكاريا، وفي «تاراخ» يمكن للسائح أن يتمتع بمشاهدة مهارة الحرفيين وهم يصنعون الهدايا التقليدية من «الملاعق والمغارف الخشبية التذكارية». وشكلت منطقة «سكاريا» في الماضي محطة للتبادل الثقافي بين الشرق والغرب، ومعبرًا تمر من خلاله الطرق العسكرية التي يعود تاريخها إلى العصور الرومانية والبيزنطية والعثمانية، كما عبر أراضي «سكاريا» طريق الحرير التاريخي الذي ربط بين الشرق الأقصى وأوروبا، ولا تزال آثار تلك الطرق ماثلة للعيان من خلال الجسور والأقواس التاريخية والطرق المرصوفة بالحجارة التي طالما جذبت العديد من الرحالة والمستكشفين والتجار. وينظر إلى محافظة «سابانكا» بوصفها من المراكز التاريخية المهمة التي تعود إلى حقب زمنية قديمة، واكتسبت أهمية خاصة خلال العصر العثماني نظرًا لموقعها على طريق الحرير، إضافة إلى المباني التراثية التي صممها المعماري التركي «معمار سنان» ومنها مسجد «رستم باشا» الذي يعتقد أنه أنشئ في عام 1555، كما أن «سابانكا» تعد مركزًا للأنشطة الثقافية، وخلال شهر يونيو من كل عام يجتمع محبو الشعر والأدب والفن للمشاركة وحضور مهرجان الشعر العالمي الذي يقام على شطآن بحيرة سابانكا، وأحيانًا على جسر جوستينيان (سانجاريوس) التاريخي في أجواء تمزج جمال الطبيعة بفنون الشعر والأدب. ويتيح منظر جسر «جوستينيان» الذي يقع خارج «سابانكا» وقتًا للتأمل والتساؤل عن أسباب بناء هذا الجسر الكبير فوق الممر المائي الصغير الذي ينحدر من تحته، والذي غيَّر مساره تدريجيًا عبر الحقب الزمنية واتجه شرقًا على بعد ثلاثة كيلومترات من الجسر.
وفي «سكاريا» يرتبط ممر «جيف» بالذاكرة التركية بحرب التحرير، حيث أسهم موقعه الاستراتيجي في أن يكون مسرحًا لكثير من المعارك والمصادمات الدموية، ومع ذلك ظل الممر النهري المنحدر بين سلاسل الجبال نقيًا دون آثار تلك الحروب مبرزًا مختلف درجات اللون الأخضر في أشجاره ونباتاته المتنوعة، بينما تبدو أطلال قلعة «كوبان الراعي» التي بناها البيزنطيون في أضيق نقطة من الممر مؤكدة إلى جانب قلعة «عدلي - المحكمة» وقلعة «باجلارباشي- بساتين الكروم» أهمية التحكم في هذا الممر للدفاع عن عاصمتهم.
وعلى بعد مسافة يسيرة من ممر «جيف» التاريخي تقع محافظة «علي فؤاد باشا» وهي محافظة صغيرة أخذت اسمها من الجنرال «علي فؤاد سيبيسوي» بطل حرب التحرير المقرب من «مصطفى كمال أتاتورك»، وفي هذه المحافظة يمكنك زيارة متحف «كوفاي إي ميللي -القوات الوطنية»، حيث يوجد به كثير من القطع والوثائق العسكرية المهمة، وعلى مقربة منه يقع جسر نهر «سكاريا» الذي أنشأه السلطان بايزيد الثاني نجل السلطان محمد الفاتح قبل 500 عام.