الكتابة من الصورة إلى الحرف

تاريخ الكتابة في شبه الجزيرة العربية يدل
على الوحدة الحضارية عبر أزمنة طويلة.


عبدالله المحيميدأ.د.عبدالعزيز بن سعود الغزي
رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للدراسات الأثرية، جامعة الملك سعود

النقلة من مرحلة الرسوم الصخرية إلى الأبجدية بالجزيرة العربية غير واضحة، وما بينهما لا يزال مجهولاً. وقد توصل الإنسان إلى الكتابة من خلال تطور بطيء من الرسوم الصخرية إلى الكتابة بأحرف معينة لكل منها صوت معين، تُكون لغة مفهومة كتابة وقراءة. ولا يبعد تاريخ الكيانات المعروفة لنا في العالم القديم في أعماق الزمن إلى أكثر من نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، أي ألفين ومئتي عام قبل الميلاد، وقبل ما يزيد على أربعة آلاف عام قبل الوقت الحاضر. ومن أبكرها على مستوى العالم القديم الدولة الأكادية في بلاد الرافدين، والدولة الفرعونية القديمة في أرض النيل، والممالك الآرامية في بلاد الشام.

هناك من الأمم في شبه الجزيرة العربية التي تعود في الزمن إلى ذلك التاريخ مثل أمة عاد التي تدل الشواهد الزمنية والأخبار التاريخية على أنها عاشت في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وأمة ثمود التي يعود تاريخها إلى نهاية الألف الثالث، بل تكاد تكون معاصرة للإمبراطورية الأكادية في بلاد الرافدين، والمملكة الفرعونية القديمة في أرض النيل. والأمة الثالثة هي أمة مدين التي يرجع تاريخها إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد، وما إن جاءت نهاية ذلك الألف حتى أصبحت لدينا في شبه الجزيرة العربية كيانات كاملة التنظيم، وهذا يعني أن بدايات تكوينها تسبق ذلك التاريخ بما لا يقل عن عدة قرون. وكتبت تلك الكيانات بأقلام أيضًا جاءت مكتملة وبأبجدية كاملة، ما يعني أن بدايات تكونها تسبق ذلك بقرن أو عدة قرون، إلا أن معرفة بداياتها في شبه الجزيرة العربية وكيف تطورت إلى الشكل الأبجدي غير واضحة، فهل جاءت أبجدية من أول مرة؟ وهل هو أمر حتمي أن تبدأ الكتابة بالتصويرية؟ وهل من الضروري أن تكون التصويرية هي بداية أي كتابة؟ أسئلة أجوبتها غير قاطعة. فالفرعونية كتبت بالتصويرية «الهيروغليفية» واستمرت عليها، وكتبت أمم بلاد الرافدين المتتابعة بالمقطعية واستمرت عليها، والأمم الصينية كتبت بالتصويرية ولا تزال تكتب بها، والعربية كتبت بالأبجدية ولا تزال تكتب بها، فهل كانت الكتابة في شبه الجزيرة العربية أبجدية من بدايتها؟ سؤال رفضه جائر، وقبول مضمونه جائر أيضًا، ويبقى هذا الوضع حتى ينجلي بنتائج البحث الجاد الشامل العميق، متى يحدث ذلك؟ سؤال له إجابة باقية في غياهب الجب حتى حين.
والكتابة وسيلة تنقل عبرها اللغة، فيمكن أن تنقل لغات مختلفة بخط واحد، ولكن لا يمكن أن يقرأ خط واحد بلغات مختلفة إلا بترجمته. وتكثر في المملكة العربية السعودية مواطن الرسوم الصخرية، وهي عبارة عن تجسيد محزوز لمناظر جماعية وفردية على واجهات الجبال التي توجد بالقرب من مواطن استيطان الإنسان في العصور القديمة. يرى بعضهم أن الإنسان توصل إلى الكتابة في شبه الجزيرة العربية من خلال تطور بطيء من الرسوم الصخرية إلى الكتابة بصور معينة، لكل منها معنى معين وبتنظيمها وفقًا لأصواتها تُكون لغة مفهومة كتابة وقراءة، ومع ذلك لا يستطيع أحد أن يجزم في كيفية التحول أو التطور من مشهد الصورة ومعناها إلى صوت الحرف وصورته، إلا أن الكل يتفق على أن كليهما وسيلة للتفسير عمّا يريد الإنسان ترجمته إلى الآخر، وربما كانت الصورة تكفي في المجتمعات ذات الأعداد الصغيرة والمتطلبات المحدودة، فتجد الإنسان وصل إلى مرحلة عُرفت باسم الكتابة التصويرية التي تعني استخدام الصورة لترجمة المقصد أو الحدث، ثم تطورت إلى استخدام الكلمات مكونة من رسوم وصلت فيما بعد إلى الكتابة المقطعية، أي أن لكل مقطع معنى. فظهرت الكتابة الهيروغليفية، وهي تصويرية صرفة. كما ظهرت المقطعية في بلاد الرافدين، وهي رمزية صرفة تكونها تركيبات من حروف تظهر بهيئة مسامير. وبالنسبة إلى شبه الجزيرة العربية، فالنقلة من مرحلة الرسوم الصخرية إلى الأبجدية غير واضحة، فلا يزال ما بينهما مجهولاً. والمعروف اليوم أن الخط السائد في شبه الجزيرة العربية هو الخط المسند، والذي يتفق الجميع على أنه كُتب به مكتملاً مع بداية الدولة المعينية في مطلع نهاية الألف الثاني وبداية الألف الأول قبل الميلاد. وعرف الخط باسم «المسند» لأن حروفه تستند بعضها إلى بعض، وقد وجد هذا الخط مكتمل النمو، أي أنه خط أبجدي يشتمل على الحروف الصامتة والمتحركة، الحروف الأساسية، وحروف العلة، أو ما يسمى بحروف المد. لا يعرف على وجه التحديد كيف تطور هذا الخط من الأنماط القديمة كالتصويرية والمقطعية إلى الأبجدية، وجرت محاولات لتفسير ذلك، لكنها لم تصل بعد إلى مرحلة القبول المشروط، وما يمكن أن يطرح الآن هو أنه خط تطور من داخله مع تغيرات تستجد من وقت إلى آخر كاتجاه الحرف وسمكه وضعفه، وأحيانًا تغيير غير جذري في شكله. وقد عرف هذا الخط المسندي في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، وكتبت به جميع ممالكها المعروفة لنا. وجرى العرف على أن يقسمه الباحثون إلى قسمين رئيسين:
المسند الجنوبي: وهو الخط الذي كتبت به ممالك جنوب الجزيرة العربية، كمعين وسبأ وقتبان وحضرموت وحمير وأوسان وكندة، ومشيخات أخرى وجدت في مواضع مختلفة تنتشر في أرجاء شبه الجزيرة العربية.
الخط المسند الشمالي: وهو نظير، إلى حد كبير، لشقيقه المسند الجنوبي مع اختلافات بسيطة في أشكال الحروف، وأدوات التعريف، وقد كتبت به ممالك شمالي شبه الجزيرة العربية، وتشمل ثمود ومدين ودادان ولحيان، وكذلك الأمة التي عرفت باسم الصفويين. وقد وجدت آلاف مؤلفة من النقوش في شبه الجزيرة العربية، وتنقسم إلى نوعين:

أولاً: كتابات مسندية متقنة ناقلة للأحداث والقوانين والأنظمة، ويمكن أن يتكون النص من سطر واحد فيه كلمة أو أكثر أو من عشرات الأسطر المشتملة على مئات الكلمات. وكتبت بهذا النوع النصوص القانونية، والعقائدية، والدينية، والاحتفالية، والشخصية. وهذه كتابات رسمية اعتني بها، وغالبًا ما توجد داخل المستوطنات وتكثر في الأماكن البعيدة، وتظهر في أماكن المنشآت العامة مثل السدود والمعابد والمنشآت العامةبشكل عام أيًّا كان نوعها، وتوجد منها أعداد ليست بقليلة على واجهات صخور الجبال المحيطة بالمستوطنات، كما هي الحال في مستوطنة دادان في محافظة العلا الحالية، حيث وجدت أعداد كبيرة من الكتابات اللحيانية والدادانية على وجهات الجبال القريبة من أماكن التعبد.

ثانيًا: كتابات مسندية مخربشة تسمى «المخربشات»، وهو خط غير متقن، كتبت به الأقوام المتنقلة ورجال القوافل. ويكثر وجوده في أماكن وجود الرعاة وعلى مسارات الطرق وفي مواضع توقف القوافل للراحة، ويتداخل أحيانًا مع الرسوم الصخرية في المكان، لكنه قد يسبقها أو يتلوها في الزمن. ونجد أن الكتابة دونت في شبه الجزيرة العربية بخط واحد هو «خط المسند»، وإن تباين في مظاهر ثانوية، ربما أن سبب وجودها هو التطور البطيء في الشيء الواحد مع تأثير اللهجات المتعددة للغة الواحدة التي كتبت بالخط ذاته. فالكتابة في شبه الجزيرة العربية ظاهرة تدل على الوحدة الحضارية لأجزائها المختلفة عبر أزمنة طويلة، إذ لم يعثر على أي نوع من أنواع الكتابات غير المسندية بكميات يمكن أن تدل على سيادتها. فالسيادة المكانية والتاريخية والاستمرارية والرسمية هي لكتابة واحدة عُرفت بالكتابة المسندية التي نقلت لغة واحدة هي اللغة العربية القديمة.