السنة النبوية وأثرها في
الأمن النفسي


النفوس الصالحة الممتثلة بأخلاق الأنبياء هي التي تضمن لمجتمعاتها تأسيس الحضارة الصالحة

د.رفيق حميد طه السامرائي
أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأمير محمد بن فهد بالخبر

لقد تضمنت السنة النبوية العديد من الأحاديث المشتملة على تشكيل النفس الإنسانية المتزنة والمطمئنة والهادئة، لأن النفس إذا صلحت صلح سائر العمل، وإذا فسدت فسد سائر العمل، ذلك أن الاضطرابات النفسية سبب من أسباب التدهور العضوي لدى الإنسان.
من الضروري علاج النفس ومحاصرة الشرور التي تخترق التناغم النفسي، والنقائص التي تؤثر في النفس كالكِبر، والعُجب، والغرور، والطمع، والحسد، والرياء، والحقد.. إلخ.
وثمة نصوص نبوية تؤكد أهمية الاعتراف بالاستعدادات النفسية وميولها وكيفية التعامل مع الآخرين، ذلك أن عواطف الإنسان ومشاعره وأحاسيسه تُشكل بالدرجة الأولى سلوكه، فالتوجيهات والإرشادات النبوية وظيفتها تقويم السلوك الإنساني، بل القرآن الكريم قبل ذلك يقوم بالارتقاء بالسلوك الإنساني وإرشاده نحو الإدراك والتحكم والسير نحو الفضيلة وتنميتها، وتأتي السُّنة النبوية بالدرجة الثانية في تقديم العلاج وضبط السلوك وتعديله في أحوال النفس كالتصرف عند الغضب، أو الإفراط في أمر ما، ونحو ذلك.
وعليه فإننا نلحظ أن الإسلام يؤكد الموازنة والتنسيق بين متطلبات جسم الإنسان وروحه، لتكون عونًا له على أداء رسالته في الحياة الدنيا وما بعدها. أما الفلسفات القديمة والحديثة فقد استبعدت هداية السماء، ولم تنجح النجاح الكامل في متطلبات البدن وأشواق الروح، وما سيؤول إليه الإنسان بعد رحيله من الدنيا. يُذكر أن النصوص النبوية، وتوجيهات الرسول، صلى الله عليه وسلم، وإرشاداته، مدركة تفاوت النفس وما تحتاج إليه، لذا فهو، عليه الصلاة السلام، يراعي متطلباتها وما يحيط بها، ثم يقوم بإرشادها. فعلى سبيل المثال لما قام بتوجيه أبي ذر كان دليلاً على ذلك، فقد ورد أن أبا ذر عيّرَ رجلاً حين قال له: يا ابن السوداء! فذهب الرجل شاكيًا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما بدر من أبي ذر، فقال عليه السلام لأبي ذر: (إنك امرؤ فيك جاهلية) . فهو صلى الله عليه وسلم يلفت نظر أبي ذر بخطر السلوك وأثره السلبي في العلاقات الاجتماعية بين الناس، فإذا ما أحسَّ الإنسان بسلبية السلوك كان من الضروري تغييره، أي تحريك النفس نحو التغيير.
وما ينبغي ذكره فإن مبادئ السنة المشرّفة الخالدة تهدف في تعاملها مع الإنسان إلى تهذيب النفس الإنسانية والتغلغل في أعماقها لتنال الكمال وذلك بفضل شمولية المبادئ وهيمنتها على قلق النفس واضطرابها لتصبح نفسًا صالحة، فالنفوس الصالحة الممتثلة أخلاق الأنبياء هي التي تضمن لشعوبها ومجتمعاتها تأسيس الحضارة الصالحة.
لذا، فتأكيد الإصلاح النفسي من أهم الأسس في الفكر الإسلامي وهو دعم لفطرة الإنسان وتنميتها إلى فعل الخير وفضائل الأعمال. وثمة آفات تخترق التناغم النفسي لدى الإنسان كالرياء، واليأس، والغرور، والحقد، والحسد، والقلق..إلخ. وهذا الاختراق في النفس إنما هو راجع إلى انحراف الفطرة الإنسانية عن مسارها الصحيح، فالعين تبصر، والأذن تسمع، فإذا ما أصاب حواس الإنسان خلل في الوظيفة تعطلت الحواس عن أداء عملها، وكذا الفطرة إذا ما اعتراها ما يشوبها، فإنها ستنحرف وتبدأ تتجه نحو آفات النفس والتي من شأنها أن تزرع فيها الشر والخذلان.
ومن هنا جاءت السُّنة المشرفة لتقويم السلوك، وتوجيه النفس نحو الإيمان، والالتزام بقيم الدين، والتي تُشكل القوة الكامنة في النفس مزودة الإنسان بالطاقة الروحية والتغلب على الصعاب، وتحمل مشاق الحياة وهمومها، وكل ذلك جاء على يد المعلم الأول، والتربوي الأول، وخبير علم النفس الأول محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي سبق فلاسفة الدنيا في تحليل النفس وحاجاتها الروحية والمادية. ولعل الأزمات الروحية التي تمر بها النفس الإنسانية اليوم إنما هي نتيجة افتقار الإنسان إلى الحياة الروحية والاجتماعية فضلاً عن أسباب وعوامل مرتبطة بالأمن النفسي كعوامل البيئة المحيطة، والتنشئة الاجتماعية وغيرها. فالطمأنينة، والأمن الذاتي، والتكيف الذاتي، والرضا عن الذات، والتوازن الانفعالي، هي أسباب ومؤشرات تدخل ضمن مفهوم الأمن النفسي. فعلى سبيل المثال: درجة شعور الإنسان بالأمن النفسي مرتبطة بحالته الصحية والاجتماعية ومدى إشباع دوافعه ضمن عملية التكيّف الاجتماعي والأخلاقي، فالقلق يسبب للمرء اضطرابًا نفسيًا، ومن ثمَّ تنخفض عنده نسبة الشعور بالأمن، وكذا التوتر وهو ناجم عن مواقف ضاغطة ومؤلمة، بينما الأمن النفسي والتوافق الشخصي والاجتماعي نتيجة يشعر المرء من خلالها بالثقة بالنفس والسعادة والرضا، ما يجعله أكثر شعورًا بالأمن من غيره. ومن هنا فالإسلام لا يريد من النفس الإنسانية الهبوط في الروح والأخلاق، بل يريد منها الترقي في الروح وفضائل الأخلاق، ونظافة النفس، والتسامي إلى أعلى درجات النُبل.
نموذج من السنة المشرّفة للأمن النفسي
جاء رجل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك! قال صلى الله عليه وسلم:(قل آمنت بالله ثم استقم). يقرر الحديث أن الإيمان بالله ثم الاستقامة على دينه من أعظم الأبواب للأمن النفسي، فإذا ما وقر الإيمان في النفس الإنسانية تغلبت على الصعاب، لأن الإيمان العميق سيدفع المرء إلى عمل الفضائل، وإذا عمل الفضائل واستقام على الطريق السوي استقامت نفسه، وانشرح صدره، وتألقت روحه، وبالتأكيد حاصر كل ما يلج في النفس من شرور وغيرها. وصلى الله على معلم الناس الخير وعلى آله وصحبه وسلم