نزهة المشتاق

في المتوسط

جولة آسرة في خمس من جزر البحر الأبيض المتوسط التي يؤمها السياح.

الرحالة بقصصهم الجميلة، والغزاة بمطامحهم العظيمة، والتجار والمغامرون، وحتى القراصنة أخذتهم أمواج البحر الأبيض المتوسط إلى نزهة بين جزره، فما بين مدِّ البحر وجزره انتشت الشواطئ بسفن القادمين إليها. ومع كل قدوم كان هناك إيذان بتغير وإضافة يحسب التاريخ فضلها للمشتاقين وحتى للغزاة!
في القرن السادس عشر الميلادي ألف الرحالة الإدريسي كتابه الجغرافي «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» وجمع في كتابه جزر البحر المتوسط وأقاليمه الشبيهة بعقد لؤلؤ انفرط ليزين البحر. لقد جعل الإدريسي في اختراق آفاق الجزر متعة معرفية لا تضاهيها متعة، حيث كان التنقل من جزيرة تلو الأخرى. أما اليوم فقد أصبحت هذه الجزر، للسياح العرب، نزهة لا تقاوم للباحثين منهم عن الاستجمام وعبق العرب الأوائل.

صقلية.. جزيرة البرتقال

يقول غوته «الذي يزور إيطاليا ولم ير صقلية، فكأنه لم ير إيطاليا قط، لأن صقلية هي كل شيء». عندما تعبر من مضيق مسينا الذي يفصل بين صقلية وشبه الجزيرة الإيطالية تستطيع أن تشم رائحة العرب العطرة في أطباق المطبخ الصقلي، فتلمس في توابله نكهات عربية كالزعفران وجوزة الطيب والقرنفل والفلفل. لكن ما إن تطأ أرض صقلية التي تعد أكبر جزيرة في حوض البحر الأبيض المتوسط حتى تشعر أنك وطئت أرض الأساطير. فصقلية بمدنها وقراها خليط عجيب من الحضارات تتجلى في الثقافة والعمران والآثار. ولعل من أهم آثار صقلية الموغلة في القدم والغرابة نكروبوليس بانتاليكا التي تقع في جنوب شرق الجزيرة وهي مقبرة تحتوي على 5000 قبر ويعود تاريخها للقرن الثالث عشر قبل الميلاد، وتتميز بعمران فريد وكأنها منحوتة في الجبال الجيرية. لا يتوقف الموت في صقلية عند هذه المقبرة التي يعود تاريخها لما قبل الميلاد، بل تجد في باليرمو، عاصمة صقلية، والتي سماها العرب «بلرم»، أغرب مقبرة في العالم، إذ تعرض أمواتها على جدران سراديب المكان! لذا كان السياح يسألون دومًا عن الموت والمقابر بشغف وخوف.
أما بعيدًا عن الموت والأموات فسوف يدهشك ذلك التاريخ الموغل في القدم الذي يقابلك في معظم أزقة باليرمو وقرى صقلية، فثمة مشاهد من المعمار القوطي والباروكي. إنها مكان مثالي لأولئك المتتبعين لتاريخ العمران والباحثين عن تفاصيل حفظها الزمان بين الجدران والنوافذ المقنطرة. إن صقلية العابقة بالتاريخ والحضارة كانت في ماضيها القريب، أي منذ أكثر من ألف سنة، إسلامية تزخر بأكثر من 300 مسجد، وكانت إبان الحكم الإسلامي بلدًا متسامحًا جمع بين أديان سماوية عدة. ولعل من المفارقة أن صقلية المتهمة بأن عددًا من عناصر المافيا الإيطالية ينتمون إليها كانت في ماضيها البعيد من أكثر جزر البحر الأبيض المتوسط مطمحًا للغزاة إذ تعرضت لغزو الإغريق والرومان والبيزنطيين والنورمانديين والكتالونيين. وهذا ما يفسر مقدار الآثار الموجودة في جزيرة صقلية. فكل غاز وفاتح ترك فيها أثرًا يستحق المشاهدة. هذا إضافة إلى التضاريس التي منحها الله، حيث تتمتع بشواطئ إيطالية ساحرة مثل شاطئ سان فيتو لو كابو، ولعلها استمدت هذا الجمال الطبيعي من منافسة زرقة سمائها زرقة بحرها المتناهي. كثيرة هي الأشياء التي تميز صقلية عن غيرها لكن برتقال صقلية الماوردي يكاد يكون هو الأميز على الإطلاق. فهو ليس برتقاليًا، بل هو برتقال ياقوتي اللون من الداخل، وتميل قشرته إلى الحمرة، تختلف رائحة البرتقال الصقلي عن غيره من البرتقال، إذ يفتح الشهية. أما مذاقه فيشبه طعم توت العليق. لذا من الرائع أن تجرب كعكة البرتقال الصقلية، كما أن مربى البرتقال تجربة مذاق فريدة على شرائح الخبز الصقلي.
يوجد في صقلية وفي مدنها الرئيسة مثل العاصمة باليرمو وكاتانيا، وسيركوزا، وتاورمينا عدد كبير من الفنادق. ففي قلب باليرمو يمكنك أن تجد فنادق تعود مبانيها للقرن التاسع عشر. وربما تدهش عندما يقابلك موظفو هذه الفنادق بشعور مستعارة كما كان يرتدي النبلاء في القرن التاسع عشر. ولعل فندق قصر سنترال الذي كان قصرًا لأحد النبلاء الذي تزين جدرانه رسومات تلك الحقبة يعد اختيارًا مغرقًا في رومانسية لائقة بليالي صقلية وعاصمتها بلرم كما سماها العرب الأوائل.

سردينيا.. اللؤلؤة الإيطالية

تُعد هذه اللؤلؤة ثاني أكبر جزيرة في البحر الأبيض المتوسط، بعد صقلية. وهي مثل سابقتها جزيرة إيطالية تخضع لحكم ذاتي وتجاورها كورسيكا الفرنسية، وصقلية، وتونس. وحال سردينيا لا يختلف عن صقلية في كثرة الغزاة الذين وطئوا أرضها، لكنها عروس البحر الأبيض المتوسط واللؤلؤة الإيطالية الفريدة المشعة في وسط البحر. تتألف من ثماني مقاطعات ويتبع كل مقاطعة عدد من القرى. تعد سردينيا مكانًا مثاليًا بامتياز لمحبي الاستجمام على الشواطئ والرحلات البحرية، لذا يقصدها كثير من المشاهير والأغنياء من مختلف بلدان العالم، كما أنها غدت مستقرًا لبعض فناني هوليوود، وذلك لطبيعتها الساحرة وشواطئها الفيروزية. يمكنك أن تشاهد طيور الفلامنجو، وأن تستنشق رائحة البحر الحقيقية، وتتلذذ بطعام بحري مثل طبق الكركند، وتحلق بنظرك سابرًا أغوار البحر نهارًا ملتمعًا بالضوء ليلاً.. كل حواسك سوف تكون في أعلى درجات يقظتها على هذه الجزيرة الخلابة الحالمة.
ينصح بزيارة سردينيا في شهري يوليو وأغسطس حيث يصبح الطقس مثاليًا للاستجمام على الشواطئ. وعند زيارتها ستجد أن أكبر مقاطعاتها مثل كالياري، وألغيرو، وأولبيا، وفيلاسيميوس تزخر بعدد كبير من الفنادق العالمية والفنادق المحلية الصغيرة. لكن تذكر أن سردينيا جزيرة للانطلاق وليست للغرف الفارهة!

كورسيكا.. نزهة المشتاق

ليس ما يميز جزيرة كورسيكا أنها فرنسية، بل إن هذه الجزيرة التي تقع في حوض البحر المتوسط وتعد الجزيرة الرابعة من حيث المساحة في البحر المتوسط، تملك تضاريس متباينة، بين ارتفاعات وقمم جبال نادرة، ما يجعلها مكانًا ملائمًا للرياضات البحرية، هذا إضافة إلى أشجار السنديان وأشجار الصنوبر المنتشرة في الجزيرة، والشواطئ الرملية البيضاء التي اختيرت أجمل الشواطئ في العالم من قبل النادي الدولي للسياحة. كورسيكا الجزيرة الحائرة بين فرنسا وإيطاليا، هي أشبه ما تكون بالجنوب الفرنسي مع خليط إيطالي محبب، إنها تمازج بين ثقافتين في الطعام واللغة، حيث اللغة الإيطالية هي اللغة المحلية، بينما الفرنسية هي اللغة الرسمية فيها. أما في الطعام فستجد في كورسيكا البيتزا والباستا، إضافة إلى أجبان الماعز وحليبه. إذ كنت في زيارة كورسيكا فلا يفوتك عسل نحلها، لأن أهل كورسيكا يقومون بتربية النحل وصناعة العسل كتقليد قديم وبأسلوب فريد، لا يكاد يخلو بيت كورسيكي ريفي من خلية للنحل أو صناعته. إن زيارة كورسيكا نزهة حقيقية للمشتاقين، فما بين الشواطئ والقمم وأشجار الصنوبر والعسل تصنع حكاية رحلة عمر ساحرة.
أما عاصمتها فهي أجاكسيو، وفيها منزل نابوليون بونابرت، الذي يعد مزارًا سياحيًا، كما يوجد بها نادي أجاكسيو لكرة القدم. فيها أكثر من 30 فندقًا محليًا وعالميًا. لكن الجزيرة بمدنها محفزة للنزهة وصعود قممها، والانطلاق من شواطئها لبحر شديد الزرقة.

قبرص.. الموقع الفريد

ما يميز هذه الجزيرة أو جمهورية قبرص أنها قريبة من ثلاث قارات هي أوروبا وآسيا وأفريقيا، وتقع في شرق حوض البحر المتوسط، وينقسم سكان هذه الجزيرة الفريدة إلى قسمين: يوناني، وتركي، وقلما تجد اختلافًا بين الطائفتين برغم اختلاف اللغتين التركية واليونانية التي تعد الأكثر انتشارًا، إلا أن اللغة الإنجليزية تستخدم على نطاق واسع. تعد قبرص بلدًا سياحيًا، إذ تعتمد على السياحة مصدرًا للدخل. ومثلما هي قريبة من ثلاث قارات فإنك ستشاهد في نيقوسيا العاصمة وليماسول ملامح لبلدات أوروبية ريفية، ومدن عربية، وشواطئ لا نهائية. فإن كنت تنشد التنوع في رحلتك السياحية ستجد لدى قبرص التنوع الأكيد. فهي جزيرة أوروبية على ضفاف العالم العربي. عندما تفكر في زيارة جزيرة قبرص فأنت ستكون بين خيارين: هل ستزور الشمالية منها أم الجنوبية؟ فالأولى تركية، والثانية يونانية. وإذا كنت شخصًا يميل إلى عقد المقارنات فالجميل أن تزور الشمال والجنوب، فلكل جهة سماتها الخاصة. في الشمال ستجد سواحل ساحرة ممتدة وكأنها موطن الحوريات، وعددًا من المطاعم اللبنانية والتركية، كما ستجد فنادق كثيرة ذات خمس نجوم. أما الجنوب، حيث كبرى مدنها ليماسول وهي عاصمة الجنوب، فتتمتع بمناخ متوسطي معتدل صيفًا وشتاء، ومن أماكنها السياحية حديقة ملاه في الماء، إضافة إلى متحف الحياة البرية. يوجد في ليماسول عدد من الفنادق الجميلة والفارهة التي تطل على البحر والتي تحتوي على حمامات رومانية وكأنها تستجلب في أدق تفاصيلها الأساطير وقصص الحضارة. أما حول الطعام القبرصي فثق أنك عندما تزور قبرص ستقرأ في قائمة الإفطار القبرصية طبق جنة الحلوم. فقبرص هي بلدها الأصلي، لذا لا تفوت الفرصة بتذوق جبنة الحلوم الأصلية.